Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Feb-2018

صحيح البخاري عبقرية في التأليف لبيان عظمة السنة النبوية (3-3) - أسامة شحادة

 

 
الغد- بعد أن استعرضنا عبقرية شخصية الإمام البخاري، وعبقرية تأليفه لصحيح البخاري في فكرته بانتقاء الأحاديث الصحيحة فقط بل والأعلى في درجات الصحة، وهو ما شهد له كبار المحدثين والعلماء في عصره بالتوفيق في انتقائه، ثم ظهرت عبقرية البخاري وتأليفه في ترتيب كتب صحيح البخاري وترتيب أحاديثه فيها بشكل يدل على فقهٍ عميق وفهم دقيق، وقد تجلى ذلك أيضا في تبويبات البخاري للأحاديث في الأبواب والكتب حتى ألّف الكثير من العلماء كتبا خاصة في شرح تبويبات وتراجم البخاري.
اليوم وفي المقالة الأخيرة سوف نبحر مع عبقرية البخاري من خلال استعراض نموذج فقه البخاري وفكره التربوي من كتاب "العِلم" في صحيحه من خلال دراسة الأستاذ الدكتور علي العجين، عن الفكر التربوي للبخاري في كتابه الماتع "الشرح التربوي لكتاب العلم من الجامع الصحيح للإمام البخاري".
فبدايةً جعل البخاري كتاب "العلم" ثاني كتاب في صحيحه بعد كتاب "الوحي"، مما يشير لرؤية واضحة عند البخاري تجاه السنة النبوية بأن العلم بالوحي الرباني خصوصاً، والعلم عموماً، هو أساس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهو بذلك يحارب الخرافة والجهل والتقليد الأعمى الذي جلب الكوارث للبشرية.
ثم ربط البخاري في صحيحه بين القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن نماذج ذلك أنه في بيان فضل العلم ومركزيته في العقيدة الإسلامية والسنة المحمدية جعل عنوان الباب الأول في كتاب العلم (باب فضل العلم وقول الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير" وقوله تعالى "ربّ زدني علمًا")، وهناك أبواب أخرى عنوانها آية قرآنية مما يؤكد تناغم القرآن والسنة وتكاملهما، ويبطل مزاعم تعارض السنة مع القرآن أو أنها مخترعة لاحقاً!!
وهذا الوعي من الإمام البخاري بمركزية دور العلم في الشريعة الإسلامية جعلته يهتم بالكشف عن دقائق إشارات السنة النبوية لتعظيم مكانة العلم في المجتمع المسلم وكيفية إدارة هذه العملية، ويتضح هذا حين نجد البخاري يقرر في عناوين أبواب كتاب "العلم" مما يقدم لنا نظرية تربوية متكاملة.
فالامام البخاري يقرر من خلال تبويباته وإيراده الآيات والأحاديث أن "العلم قبل القول والعمل" وأنه شرط لصحة الأعمال الدينية والدنيوية، وأن العلم سبب حصول الهداية والنجاة من الضلال، وأنه علامة إرادة الله الخير بالإنسان، وأن العلم يحقق الرضى الذاتي والتقدير الشخصي ومما يحسن الغبطة به.
وينبّه البخاري إلى أن العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية ممدوح ومبذول لجميع الناس، رجالاً ونساءً كباراً وصغارًا، فمِن أبواب كتاب "العلم" بصحيح البخاري (باب هل يجعل للنساء يوم على حدة للتعلم؟) (باب تعليم الرجل أَمَته وأهله) (باب عظة النساء وتعليمهن)، هذا الرقي والعدل في إنصاف النساء هو ما جاءت به السنة النبوية، ولذلك ارتفعت مكانة ودور المرأة في الإسلام، في الوقت الذي كانت فيه النساء عند أمم العرب تعد من المتاع تورث وتهان، أو عند أمم أخرى تقتل مع وفاة زوجها أو كانت تعتبر نجسة وملعونة وأنها سبب الخطيئة وبريد الشيطان.
ولم يغفل البخاري في بيان توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في رعاية الأطفال وتعليمهم حتى يقوموا بحمل رسالة الإسلام للعالم فبوّب البخاري (متى يصح سماع الصغير؟). 
والإمام البخاري منتبه لأهمية الفهم والتدبر للعلم وعدم الاكتفاء بالحفظ، ولذلك بوّب على بعض الأحاديث فقال: (باب الفهم في العلم) و(باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم)، و(باب الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) في وعي بأهمية التدرج في التعليم لاكتمال الفهم، و(باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه) لضرورة مراجعة الفهم.
وأورد البخاري عددا من الأحاديث التوجيهية للمعلمين لحسن إتمام العملية التعليمية تحت الأبواب (باب مَن ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) (باب من خصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ربّ مبلغ أوعى مِن سامع) (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا) (باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه) (باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس) في إشارة لتوظيف لغة الجسد في التعليم.
بهذا الفقه العميق للإمام البخاري لدوْر العلم في الإسلام ورسالة التوحيد تمكن البخاري من جمع 75 حديثاً وزّعها على 53 باباً في كتاب "العلم" شكلت رؤية علمية فكرية تبرز تكامل وشمولية العملية التربوية والعلمية من السنة النبوية المطهرة.
فإذا استحضرنا أن البخاري جعل كتاب "العلم" في مقدمة صحيحه، وأن صحيح البخاري تم تدريسه وقراءته ملايين المرات عبر التاريخ وقام العلماء بشرحه في الدروس والكتب مرات لا تحصى، عندها نعرف دور البخاري وصحيحه في توجيه الأمة الإسلامية للعلم والتعلم، والذي انعكس بتفوقها العلمي والحضاري الذي شهدت له البشرية جمعاء.
ولكن حين تحولت قراءة البخاري لطقوس شعائرية للبركة بدلاً من الفقه والتدبر أو حين تم تعطيل قراءة السنة النبوية بسبب الجهل والتعصب المذهبي عمّ الجهل والتخلف ديار المسلمين ولحقتهم الهزيمة والتبعية، فهل مِن عودة علمية صحيحة لصحيح البخاري الذي جمع لنا فقهه للقرآن الكريم والسنة النبوية في صحيحه الذي تقبله العلماء والمسلمون عبر التاريخ؟