Wednesday 23rd of October 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Nov-2023

فتنة السرد في رواية «الريح قبل هبوبها» لتاج الدين عبد الحق

 الدستور-محمد المشايخ

رغم أن رواية الأديب والإعلامي تاج الدين عبد الحق (الريح قبل هبوبها)، تشتمل على سيرة روائية ذاتية له، وسيرة روائية غيرية لمن عمل إلى جانبهم في رحلته الجبلية الصعبة في الإعلام، إلا أنه صاغها بطريقة كان يسترجع فيها الذكريات، والمواقف الطريفة حينا، والمؤلمة في معظم الأحيان، ويعيد صياغتها، مهما عظمت، بأسلوب سهل، وبلغة الصحافة الوسطى التي تتجنب ما في العامية من ركاكة وانفلات من الضوابط والقواعد والقوانين، وما في الفصحى من تـَقـَعّر وغرابة وصعوبة.
وتعود أهمية هذه الرواية، لتفريغ بطلها فيها كل ما امتلكه من خبرات وتجارب ومعارف صحفية عملية (غير تنظيرية) لتكون- بكل ما فيها صعود وهبوط - دروسا للصحفيين الناشئين، ثم توقفه عند أهم المفاصل التاريخية والسياسية والعسكرية التي شغلت العالم العربي في العقود الماضية، وردود فعل القياديين في السياسة والعسكرتاريا والإعلام من جهة، ووجهة نظر الشارع الذي بدا ممزقا ومشتتا في مواقفه تجاه تلك المفاصل، لتعدد المشارب والتوجهات والانتماءات والمراجع الفكرية والروحية.
ولعلّ اشد تلك المحن التي واجهها في مهامه الإعلامية، تلك الأحداث التي تجعل من كل وطنيي وشرفاء وأحرار وإعلاميي الأمة وهو منهم، مع دولة ضد أخرى، ولحدث مـُعين، يُصبح مطلوبا من الجميع - بشكل فجائي-، الوقوف في مواجهة الدولة التي كانت صديقة بالأمس، لتصبح عدوة اليوم، أو التطبيع مع الدولة التي كانت عدوة بالأمس، وصارت اليوم صديقة.
والجميل في هذه السيرة الروائية أيضا انتقادها المبطن لمن يسرقون جهود النجوم من الإعلاميين، إذ كيف يرضون لأنفسهم أن ينشروا باسمهم افتتاحية، أو مادة صحفية كتبها غيرهم، ولم يكن بطل الرواية أولهم ولا آخرهم.
والجميل في السيرة أيضا، نقدها لبعض الوحدويين العرب، الذين يسألون عن المنابت والأصول، فكيف يكونون قوميين، بينما تفوح من أسئلتهم رائحة الإقليمية.
أحدثت الرواية تماسا مع أقانيم السياسة والدين والجنس، لا بقصد تحقيق الشهرة كما يفعل الآخرون، فالروائي من نجوم الإعلام والسياسة وليس بحاجة إليها، ولكن لأن فيها من فتنة السرد، ومن بهارات الكتابة، ومن مكياجات وبلاغة وبيان اللغة والأسلوب، ما يجعل القارئ معلقا من صميم فؤاده بأحداثها، غير قادر على التوقف عن القراءة، وقد نجح المغناطيس الذي بثه الروائي في إحداث الجاذبية التي كان ينشدها وهو يبتعد عن التسجيلية التي لا تخلو منها أي كتابة تاريخية.
وهنا أنوّه إلى أن المشاهد الجنسية التي وردت في الرواية ربما كانت غير حقيقية، ولكنها كانت وسيلة من الوسائل التي اتبعها الروائي لإيصال القارئ إلى مُبتغاه، إذ إنه كان يعتقد أنه لا يجوز له أن يوصل القارئ إلى البئر ثم يُعيده عطشان.
ورغم تجاوز الروائي جانبا مهما من سيرة حياته حين بزغ نجمه من معسكرات الجيش في الزرقاء، إلى جانب نخبة من أبناء الضباط في ذلك المعسكر والذين كان منهم: أسرته المبدعة التي تمثلت في والده الشيخ (محمد عبد الحق) وأشقائه الأدباء (د. أحمد، وبدر، وصادق، وصلاح) ونخبة من كبار مبدعي المملكة (الشاعر أمجد ناصر، والروائي عدي مدانات، والشاعر فايز صياغ، والأديب تيسير سبول)، ورغم تجنبه ذكر أي من أعلام الصحافة في الأردن، الذين كان لهم الأثر في نشأة جيله من الإعلاميين الكبار قبل أن تتأسس كليات الإعلام في بعض الجامعات الأردنية، ومنهم: (سليمان عرار، جمعه حماد، محمود الكايد، محمود الشريف، حسن التل، طارق مصاروة، مسلم بسيسو، محمد الشريقي، محمد تيسير ظبيان، خليل فارس نصر، رجا العيسى، عيسى الناعوري، عرفات حجازي، ضيف الله الحمود، عبد الحفيظ محمد، إبراهيم سكجها، عبد الرحيم عمر، فهد الفانك، سليمان القضاة) إلا أنه أشبعنا من خلال روايته وقائع مما ينفذه الصحفيون من حروب وصراعات دامية ضد بعضهم، وبدت الصحافة في روايته بحرا يسبح الجميع فيه لإغراق من حولهم ليتمكنوا من الحفاظ على وظائفهم والتقاط ما يمكنهم تحقيقه من مكتسبات مادية ومعنوية وإعلامية مقابل خسارات الآخرين إلى درجة إقصائهم من مناصبهم التي كدحوا حتى وصلوا إليها .
أما ما في الرواية من حديث عن الطقس الحارق في الخليج، وعن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية هناك، فيحتاج إلى كتاب مستقل.
وهنا أغبط الروائي لقاء نضاله وجهاده النفسي والجسدي حتى حقق كل ما كان ينشده، متجاوزا الفقر، ومشاكل السكن، والعلاقات المدمرة التي نسجها بعض زملائه ضده، فارتقى لمناصب قيادية في صحف، ثم راسل صحفا أخرى في أثناء وظائفه الإعلامية المهمة، ومثَّلها في فعاليات متنوعة خارج الخليج، ثم دخل عالم التجارة والاستثمار، محققا ما طلبه الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها.
أما المرأة والإعلام، فقد أخذ الروائي راحته وهو يصف زميلاته الإعلاميات والإداريات منهن، والصدى الذي كانت تحدثه كل منهن في نفسه، وفي نفس العاملين في الوسط الإعلامي الخليجي، وإن كـُن وكانوا من أصول لبنانية او سورية أو مصرية، أو عملوا في كل الأقطار العربية، مبرزا أثر توجهاتهم السياسية، وعلاقاتهم بأقطارهم (تأييدا أو معارضة) على وسائل الإعلام التي اشتغلوا فيها.
ويا للمأساة التي كان يشعر بها بطل الرواية، وهو مضطر إلى مجاملة بعض الأنظمة السياسية، وبعض القياديين في الصحف الرسمية والخاصة، فيكتب وجهات نظرهم، وليس قناعاته وتوجهاته الفكرية، لأنه إن لم يفعل ذلك، فسيعود إلى الصفر.
الذبحة الصدرية التي أصيب بها بطل الرواية في نهايتها، هي ذبحة صحفية أيضا، فهي تتحدث عن المآل السيئ الذي وصل إليه كبار الإعلاميين العرب، الذين قادوا المشهد الإعلامي في كل الحقب بثقة واقتدار، وشاءت الأقدار أن يـُلقى بهم على الرصيف، في أوضاع معيشية صعبة. تاج الدين عبد الحق، من أكثر أدباء العربية صمتا، بل إنه صندوق مقفل، كنت أتمنى في المرات التي التقيته فيها سابقا (في أثناء زياراته للمملكة) أن أراه وهو يتحدث، لكنه لم يكن يفعل، وفجأة أدهشني حين تحدث، وتحدث، وتحدث، إلى أن افرغ كل ما في جعبته في هذه الرواية التي تُعيد للأذهان أكثر من موقف، فقد بدأت بتذكيرنا بأحرف الرصاص التي كانت بحاجة لمن يقوم بتجميعها ثم صفها بجانب بعضها، لكي تتألف منها الكلمة، ثم السطر، ثم العمود، في صفحة الجريدة، قبل الوصول للمطابع الحديثة وحواسيبها، وقد كانت تلك العملية شاقة، وتوقع في أخطاء فادحة، وأتذكر أن إحدى الصحف قامت بعد توزيع أعدادها في محافظات القطر الذي تصدر به، بإعادة جمعها، لأن محررها أراد مدح أحد المسؤولين الكبار، ووصفه بأنه بطل، وتبيّن في اليوم التالي، أنه - عند صف أحرف الرصاص- جرى تقديم حرف على حرف، فظهرت الكلمة (طبل).
أما اندهاش بطل الرواية عند سماعه بالفاكسميلي لأول مرة منذ عقود، فيعيدنا إلى ما حصل مع الروائي مؤنس الرزاز قبل رحيله، ففي أثناء عمل مؤنس مستشارا لوزير الثقافة (أ. د. محمود السمرة)، كتب مقالته اليومية لجريدة الدستور على ورقتين وأعطاهما للدكتورة سهير سلطي التل لكي ترسلهما بالفاكس إلى الجريدة، بعد لحظات، أعادت له د.سهير الورقتين، فاستغرب، وقال لها إن إعادة الورقتين له تعني أنه لم يتم إرسالهما للدستور، ورغم تأكيد د.سهير له أن المقالة وصلت للجريدة، إلا أن مؤنس ذهب ليوسف ضمرة في جبل اللويبدة ليشتكي له، معتقدا أنه كان ينبغي على الورقتين وما عليهما من كلام، أن يطيرا من مبنى وزارة الثقافة إلى مبنى جريدة الدستور لتتم مطالعتهما هناك، ولكي يوضح له يوسف الأمر قال له:أنظر إلى هذا المذياع الصغير، وأخبرني كيف يبث للعالم - بكل اتساعه- الأغاني والأخبار والمواد الدرامية والمنوعات، دون أن يرى ذلك العالم أحدا من المتحدثين أو المتحدثات فيه.
أما عن المكائد والكمائن التي ينصبها بعض الصحفيين لزملائهم والتي أسهب بطل الرواية في ذكرها، فتعيدني، إلى غيرة أحد المحررين الثقافيين في جريدة الدستور مني عام1982، لأنني كنت أنشر بعض المواد الثقافية في صفحة «دنيا الثقافة والفن» اليومية التي كان يحررها الناقد والمؤرخ السينمائي حسان أبوغنيمة، وكانت المنافسة بين حسان وذلك المحرر في أوجهها، فأبلغني ذلك المحرر أن أ.محمود الشريف رئيس تحرير جريدة الدستور طلب منه عدم النشر لي في الملحق الثقافي الذي كان يصدر صباح كل يوم جمعه، فذهبت فورا لمدير مكتب أ. محمود الشريف (أ. يحيى الجوجو) وطلبت منه أن يتأكد من صحة تلك المعلومة التي تعني حرماني من نشر مقالاتي النقدية وأنا في بداية حياتي الأدبية والإعلامية دون أن ارتكب أي خطأ يمنعني من النشر، وفور دخول أ.يحيى لمكتب رئيس التحرير، قام أ.محمود الشريف بالاتصال بذلك المحرر، وابلغه بضرورة الاستمرار في نشر مقالاتي، وهدده إذا مر يوم جمعة دون أن يقرأ مقالتي في الملحق الثقافي، فإنه ســـيفعل... ويفعل... (رحم الله أ. محمود الشريف، وأ. يحيى الجوجو، وأ. حسان أبوغنيمة، وذلك المحرر).
أما حكاية الضفدع التي وردت في الرواية، فتعيدني إلى الفرحة التي شعر بها د. نبيل الشريف حين كان محررا ثقافيا في جريدة الدستور، إثر تقديم الأديب والإعلامي بدر عبد الحق (الذي كان من كـُتاب الرأي) قصة لنشرها في الملحق الثقافي في جريدة الدستور، يومها اعتبر د. نبيل أن مساهمة أ. بدر (ابن الرأي) في مـُلحق الدستور الثقافي، مكسبا للجريدة، غير أنه بعد نشرها، ورده تنبيه من الجهة المختصة، فقد كانت تلك القصة الرمزية تتحدث عن ضفدع تم وضعه في ماء، كانت حرارته ترتفع كل يوم درجة، فظل على قيد الحياة رغم وصول الماء لدرجة الغليان، مشيرا إلى أنه لو تم وضع الضفدع في الماء المغلي دفعة واحدة لمات على الفور، منتقدا من خلالها بعض الحكومات التي تنفذ إجراءات صارمة بحق شعوبها دفعة واحدة، بينما لو تمت تلك الإجراءات على دفعات لمرّت دون إحداث ردود فعل جماهيرية غاضبة.
وتـُذكرني الأصداء الإعلامية التي كانت تحظى بها بعض مواد بطل الرواية، بقول الشاعر والإعلامي أحمد المصلح (حين كان محررا للملحق الثقافي في جريدة الرأي) لأحد الأدباء الذي قدّم له مادة أدبية قال له يومها إنه إذا نشرها فستحقق أصداء إيجابية مُجلجلة في الوسط الثقافي، قال له المصلح يومها: أنا لا تهمني أصداء هذه المادة المجلجلة عند المثقفين، بقدر ما تهمني أصداؤها الإيجابية عند رئيس تحرير الجريدة الحاج جمعه حماد.