Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Feb-2018

القدس ومواسم الثرثرة - بلال حسن التل

 الراي - من الظواهر المرضية التي أصابت مجتمعنا وأمتنا، أننا أصبحنا قوم نجيد تفريغ الأشياء من مضامينها، بقدرة لا يفوقها إلا قدرتنا على تتفيه القضايا الكبرى،وتحويلها إلى مواسم للثرثرة الفارغة من المضمون، وذلك عندما نستسهل الحديث حول هذه القضايا بغير علم أو دراية، وعندما نتعامل معها بدون إحساس بالمسؤولية من جهة، وبدون معرفة وتخصص بموضوع القضية محل الحديث من جهة ثانية مما يؤدي إلى ضياع بوصلتنا، وإلى تحويل قضايانا الكبرى إلى مواسم للثرثرة التي لا تؤدي إلى نتيجة.

كثيرة هي حالات ضياع بوصلتنا في القضايا الكبرى جراء عدم جديتنا في التعامل معها، وهي الجدية التي أدى غيابها إلى تشجيع الكثيرين على التعامل مع القضايا الكبرى بأسلوب الثرثرة وبغير اختصاص، بل وبغير الدرجة الدنيا من المعرفة، مما جعل صوت وجهد أصحاب الاختصاص يضيع وسط صخب المتطاولين، الذين يسعون إلى تعويض سطحيتهم وفقرهم المعرفي بالصوت العالي، وبالحركات الاستعراضية،وبالإكثار من الثرثرة التي تفتقر إلى المضمون، وهي ثرثرة يختلط معها الحابل بالنابل، مما يولد لدى المستمع مللاً فيعرض عن الاستماع أعراضاً يضيع معه الحق.
مناسبة هذا الحديث، هو تداعيات قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة «لإسرائيل»، فكما هو متوقع فقد حدثت ردة فعل عنيفة في كل مكان من أرض الأمة ضد القرار،وهي ردة الفعل التي أعادت القدس إلى صدارة الاهتمام، ونسفت كل محاولات تغييب قضيتها عن المشهد وهذا أمر صحي، لولا سقوطنا مرة أخرى في مرض القضايا الكبرى، وعدم الاعتراف بأهمية الاختصاص، ومن ثم العمل بلا خطة محددة وواضحة، لذلك ظل معظم ما سمعناه عن القدس مجرد ثرثرة وفض مجالس، وهي حقيقة تصب في مصلحة رهان عدونا على الوقت، ومعرفته بأن ردود أفعالنا آنية، سرعان ما تتلاشى أو تغرق في محيطات الثرثرة والكلام الممجوج، أوإطلاق الشعارات دون الالتزام بمضامينها من قبل مطلقيها.
باختصار شديد لقد حولنا ردة الفعل الغاضبة لجماهير الأمة، ضد قرار ترمب إلى موسم ثرثرة حول القدس، وذلك بسبب غياب المؤسسات الجادة والراسخة التي تمتلك رؤيا استراتيجية للقضايا التي تتصدى لمعالجتها، وكذلك غياب القيادات الرصينة التي تمتلك مشروعاً لتعبئة الجماهير وحشد قواها من أجل القضايا المركزية، وهكذا أصاب قضية القدس في الأسابيع الأخيرة ما أصاب قضية محاربة التطرف والإرهاب وغيرها من القضايا الكبرى من عورات، فقد صارت قضية القدس مناسبة للكثير من الجهات لتنظيم أنشطة لا هدف لها إلا تسجيل الحضور الإعلامي لهذه الجهات، وإضافة فقرة إلى تقريرها السنوي، وكفى االله المؤمنين شر القتال، فقد غابت المتابعة مثلما غابت قبلها الرؤيا لما يجب أن يكون عليه العمل من أجل القدس.
ومثلما صارت القدس فقرة إعلامية على أجندة بعض الجهات، فقد صارت فرصة لبعض السياسيين لتلميع صورهم، واستعادة حضورهم، عبر كلمات إنشائية ممجوجة عن القدس، تفتقر إلى التخصص، وإلى العمق، وتفتقر إلى كل ما تحتاج إليه القدس، فالقدس لا تحتاج إلى موسم للثرثرة لكنها تحتاج إلى مواسم لبناء الوعي حولها، بعد أن جرت عملية تغييب ممنهجة للقدس من وعي الأمة، خاصة الأجيال الشابة من أبناء الأمة لكي تنسى مدينتها المقدسة.
والقدس تحتاج إلى تعبئة جهود الأمة وإمكانياتها لحماية القدس، حتى من مؤامرات بعض المنتمين لهذه الأمة، بعد أن تبعثرت جهود الأمة وإمكانياتها شذر مذر، وبعد أن صار تخذيل عزائم أبناء الأمة عن القدس سياسية لدى بعض الأنظمة التي تشعر كأن القدس وقضيتها صارت عبئاً عليها وعلى تحالفاتها.
والقدس تحتاج إلى تحريض الأجيال على التمسك بهوية القدس الحضارية كمدينة للتنوع،في زمن صار تذويب الهوية الحضارية للأمة الشغل الشاغل للكثير حتى من الناطقين بلغتها. وصار إقصاء الآخر عقيدة عند بعض المحسوبين على الأمة. القدس تحتاج إلى تعظيم المخزون المعرفي عنها وبها، بعد أن جرى تغييبها من فضاءات التعليم وفضاءات الثقافة والمعرفة في بلادنا.. القدس تحتاج إلى ذلك كله، وتحتاج قبله إلى إخراجها من مواسم الثرثرة إلى فضاءات
العمل الجاد من أجل استعادتها.