Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Sep-2020

«مكبث» ومخاطر الترجمة الأدبية

 الشرق الاوسط-د. صلاح نيازي

منذ فترة وأنا أعد العدة لكتابة مقالة عن مخاطر ترجمة «مكبث» ترجمة أدبية، وما فرقها عن الترجمة المعنية بالتقنية. فما إن وقعت في يدي ترجمة محمد عناني لهذه المسرحية حتى وجدتها فرصة.
 
تميزت ترجمة عناني بناحيتين: الأولى مترجمة شعراً، والثانية مشروحة شرحاً مفصلاً.
 
يقول عناني: «أما مذهبي في الترجمة... فأنا أضع الدقة نصب عيني، وتقديم نص عربي يطابق الأصل الإنجليزي في المعنى والمبنى».
 
أما عن الترجمة شعراً، فيقول: «وأعتقد أن البحور الصافية أقرب إلى نص شكسبير، فنادراً ما يلجأ هو إلى بحر مركب، ومرات لجوئه النادرة حاكيتها في الترجمة، ولا تخفى على الخبير بالعروض العربي».
 
كذا ألزم عناني نفسه بمطمحين جريئيْن، ذلك أن تركيب الجمل (Syntax) يختلف من لغة إلى أخرى. أما قرب البحور الصافية إلى النص الشكسبيري، فمسألة فيها نظر (سنعالج موسيقى الشعر في فقرة لاحقة).
 
«مكبث» من أخطر مسرحيات شكسبير لغة. فهي من ناحية قصيدة ممسرحة، ومن ناحية ثانية قصيدة ليلية شريرة.
 
إلى ذلك، فإنها أكبر دلتا دموية في تاريخ الأدب؛ المسرح بركة دم، والممثلون يتبدلون الأدوار. هم الصوت مرة، وهم الصدى مرة؛ الحياة مسرحية. البشر في مسرحية «مكبث» دمى تحركها قوى غيبية، لغتها مجازيّة مرمّزة اصطلاحية، وتقنياتها أشبه ما تكون بعمليات مختبرية، كلّ بمقدار. ما من اعتباط، وما من حبل على الغارب.
 
ترجمة «مكبث» مخاطرة، لا سيما إذا كانت غفلاً عن لغة شكسبير الاصطلاحية. ويقيناً، ما من نظرية في الترجمة، لأنها اجتهاد فردي، إذا قصدنا بالترجمة الإبداع. فما ينطبق على «ملتون» لا ينطبق على «تشوسر». كلّ نصّ أصيل يأتي بنظرية جديدة، أي أن نظرية ترجمية إن صحت فبالصدفة، فهي كالملابس الجاهزة، تصلح ولا تصلح. ولكن ربّما «مع الخواطئ سهم صائب».
 
ومن أغرب ما قرأت ما قاله أحد الدارسين بشأن معايير سبعة في الترجمة قررها أكاديمي عربي، زاعماً أن معاييره «قابلة للتطبيق على كلّ نصّ أدبي مترجم». كيف؟ هذه لا شكّ كبوة، نبوة، هفوة من نوع نادر.
 
يكفي، لغرض هذه المقالة، أن ننظر الآن في الفصل الأوّل، لأن فيه كل الثيمات الكبرى في المسرحية، حسب رأي نايتس (L C. Knights): «كلّ ثيمة في مسرحية (مكبث) مبسوطة في الفصل الأوّل، والمفتاح الموسيقي في المشهد الأوّل سيعود ويتكرر في الألحان الرئيسة في المسرحية، وكلّ كلمة فيه تشهد بدقة على ذلك». لنبدأ إذن من المشهد الأوّل - الفصل الأوّل، ثم نتدرج خطوة خطوة، للتمييز بين الترجمة الأدبية والترجمة المعنية بالتقنية.
 
يبدأ المشهد، أوّلاً، برعد وبرق. المشهد، إذن، يبدأ بالطقس. لهذه البديهة أهمية ذات دلالة، كأهمية الاستدلال على عنوان بيت من رقمه، ثمّ تدخل الساحرات الثلاث.
 
تقول الساحرة الأولى:
 
«متى نلتقي ثانية نحن الثلاث
 
في الرعد أم في البرق أم في المطر؟»
 
When shall we three meet again?
 
In thunder، lightning، or in rain?
 
هذه لغة مجازية تشير إلى مواقيت ثلاثة؛ أي هل نلتقي في بداية المعركة (أي قعقعة السيوف)، أم في وسطها (حين تجرّد فتلمع)، أم في نهايتها (حينما ينسفح الدم).
 
وتقول الساحرة الثانية:
 
«حين تضع الحرب أوزارها
 
حين تُخسر المعركة وتُربح»
 
When the hurlyburly’s done،
 
When the battle’s lost and won.
 
وقبل أن يتفرّقْنَ، قلنِ بصوت واحد:
 
«الصاحي غائم، والغائم صاحٍ»
 
في هذا المشهد الصغير، إنما استنبت شكسبير ثلاثة بذور أساسية، وهي: (1) الرقم ثلاثة، (2) الصدى، (3) الطقس.
 
هذه مفاتيح ناجعة لفهم كثير من الألاغيز الغامضة في هذه المسرحية. وسنحرص على متابعة تطوّر هذه الثيمات الثلاث، لأن بإغفالها تعسر الترجمة حدّ التشوّش.
 
جاءت ترجمة الأستاذ عناني، على الصورة التالية:
 
الساحرة 1: «متى نلتقي بعد نحن الثلاث؟
 
أفي الرعد والبرق أم في المطر؟
 
الساحرة 2: «سننظر كي يهدأ الصخب الملتاث
 
وينهزم الجيش أو ينتصر»
 
 
تقول الساحرات الثلاث في نهاية المشهد:
 
«ألا إنما الخير شرّ ألا إنما الشر خير
 
فحلقن وسط الضباب وجو الهواء العكر».
 
لا ريب هذه ترجمة أدبية خالصة، همها تبيّن المعنى، لا كيف قيل، وهذا هو الفرق الأساسي بين الترجمة الأدبية والترجمة التي تُعنى بالتقنية. إذا نظرنا إلى التقنيات التي توسلها شكسبير في هذا الحوار الصغير، سنرى كيف فقدت الترجمة العربية دقة التوريات. مثلاً، قال عناني في الحاشية رقم 2 إنه يصحح «أم» (or) في هذا السطر إلى «و» (and) لأن الظواهر الجوية الثلاث متلازمة، ويوافقه كابل، ولكنّ خروج الساحرات عن المنطق مقبول.
 
ولا أدري لماذا نقل عناني هذا الكلام غير العلمي، هل هي حقاً «متلازمة» دائماً. لندع علوم الأنواء الجوية، ونقرأ ما كتبه «تي إس إليوت» في قسم «ماذا قال الرعد»، من قصيدته المهيبة «الأرض الخراب»:
 
«وليس هناك حتى صمت في الجبال
 
سوى رعد جافّ عقيم بلا مطر»
 
تقول الساحرة (2):
 
«سننظر كي يهدأ الصخب الملتاث»، بمعنى أنهن سيقفن منتظرات، وهذا يتعارض مع اتفاقهن على الافتراق، ثم اللقاء ثانية في المرجة. وقال «سيهدأ» ولكن ما من هدوء، هناك حسم لا بد منه للمعركة، ولا أدري من أين جاءت كلمة: «ملتاث».
 
يقول المترجم في الحاشية 2: «الصخب الملتاث في الأصل ومعناها الحرفي هو الضجيج الأهوج، والمقصود هو الفتنة الهوجاء، أي فتنة التمرد على الملك، واختيار الصفة العربية في النص هنا تفرضه القافية العربية»؛ أين إذن دقة المعنى والمبنى؟
 
تقول ترجمة عناني أيضاً: «وينهزم الجيش أو ينتصر». هذا هو المعنى الأدبي، وهو مقبول إلى حدٍّ ما.
 
المغزى العميق للمصطلح هو الخسارة والربح، لأن صداها سنصادفه على لسان الملك دنكن، في آخر جملة يقولها في نهاية المشهد الثاني: «ما خسره أمير (كودر) ربحه مكبث النبيل».
 
أما عبارة «وينهزم الجيش أو ينتصر»، فليس في النص الإنجليزي الجيش، وإنما المعركة. أكثر من ذلك أن ترجمة واو العطف هنا إلى «أو» قضى على دقة المعنى، فالمعركة تخسر وتربح في آن واحد، وهي بهذا تمهد للتناقضات التالية، مثل الصاحي غائم والغائم صاحٍ.
 
لو عدنا إلى السطرين الأخيرين في المشهد الأول: «ألا إنما الخير شر، ألا إنما الشر خير - فحلقن وسط الضباب وجو الهواء العكر»، فلا أدري ما الذي أغرى المترجم باختيار الخير والشر من بين الشروح الأخرى، فليس في المشهد خير أو شّر، خاصة بالنسبة إلى الساحرات الثلاث، وإنما كن يتحدثن عن الطقس منذ السطر الأوّل في المشهد؛ الترجمة الأقرب كما يبدو هي:
 
«الصاحي غائم والغائم صاحٍ»
 
نجد صدى لهذه الجملة في الفصل الأوّل - المشهد الثالث، حين قال مكبث: «لم أرَ يوماً صحواً غائماً كهذا اليوم».
 
أما الشطر: «فحلقْنَ وسط الضباب وجو الهواء العكر»، فكنت أتصور من قبل أن العكر إنما هي صفة للماء، لا للهواء. بالإضافة إلى إنها إنما أدرجت هنا لأنها تماشي قافية: «ينتصر» في البيت السابق. أمّا «فحلقن»، فما من أحد يستطيع أن يجزم أن الساحرات الثلاث كنّ مجنحات. ولو كنّ كذلك لما أبحرت الساحرة الأولى من اسكوتلندا إلى حلب بمنخل. كان أسهل عليها أن تطير إلى هناك. أكثر من ذلك حين تختفي الساحرات الثلاث أمام عيني مكبث. يقول بانكو:
 
«للتراب فقّاعات، كما للماء
 
وهنّ من تلك الفقاعات. - أين اختفيْنَ؟»
 
وفي رسالة مكبث إلى الليدي مكبث، في المشهد الخامس، ترد العبارة التالية: «جعلن أنفسهنّ (أي الساحرات) هواء وذبْنَ فيه».
 
ماذا لو اخترنا كلمة يحمْن من الفعل حام، بدلاً من حلّقْن؟ فالمعنى القاموسي للفعل حام هو: دار حول الحمى؛ إنها بلا شك تتداعى إلى الحومة، وهي أشدّ موضع في القتال.
 
الرقم (3) هو أحد الجذور الأساسية في مسرحية مكبث. إنه الدوائر التي لا تني تدور، ولا تتوقف أو تفتر. العسكري مكبث يعاني لدرجة الانهلاع من قيامتين: السماوية والأرضية. القيامة الأرضية هي التي قاب قوسين، هي خناقه.
 
ثمة نهر ديني عميق يجري في تضاريس المسرحيّة. الرقم (3) نهر عميق؛ إنه عقيدة الثالوث: «الأب والابن والروح القدس»؛ تلك أقانيم الإله الثلاث.
 
المترجم الذي لا يفطن لما لهذا الرقم من أهمية يقع في مطبات مشينة. يقول لزلي أ. فيدلر: «الرقم (3) هو التعويذة السحرية، لأن المرأة صُوِّرتْ من البداية على أنها ثالوث بالنسبة للرجل: أوّلاً حبلت به، ثانياً احتضنته بالحب، وأخيراً كفنته حينما مات».
 
على هذا شطّت مثلاً ترجمة جبرا، وهو كثير الربذات والسقطات، حينما ترجم الشطرين الأوّليْن بالصورة التالية:
 
«متى نلتقي ثانية نحن الثلاث»
 
في رعود وبروق وأمطار كاللهاث»
 
كذا جمع المترجم الرعد والبرق والمطر، ثمّ ترجم «أو» إلى الواو العاطفة، وبذلك قضى على مواقيتها الثلاثة المنفصلة.
 
الأكثر إيلاماً، أن المترجم أضاف من عنديّاته «كاللهاث». وهكذا، كما يقول المثل العراقي: «أراد أن يكحلها».
 
لنعد إلى ما قاله عناني ثانية: «فحلقْنَ وسط الضباب وجوّ الهواء العكر». يبدو أن كلمة «جو» حشو اقتضته ضرورة الوزن الشعري. الحشو في ترجمة مكبث خاصّة معيب، لأن شخصيات مكبث توجز في الكلام، ولا وقت لها حتى «لاستظهار أدوارها». زبدة القول لغة مكبث، حادة (Laconics)، سريعة الزفير، سريعة الشهيق.
 
لكن لننظر في عبارة (Foul air) التي ترجمها عناني «الهواء العكر». قد يكون من المفيد تأمّل هذه الكلمة،
 
فهي تعني: الفاسد، العفن، الملوّث، الموبوء. قد يختار المترجم أيّاً من تلك المعاني، حسب مقتضى الحال، ولكن حين تكون الترجمة اصطلاحية، فلا بدّ له من تحديد الكلمة فنيّاً. وفي هذه الحالة قد تكون «الموبوء» أقرب إلى النص، نظراً لاهتمام المسرحية بالطب والأمراض النفسية والجسدية والعلاج، كما في الحوار الذي دار بين مكبث والطبيب، في الفصل الخامس - المشهد الثالث، بالإضافة إلى تأثر شكسبير بالطبيب الخيميائي الألماني Paracelsus الذي شاعت كتاباته ومعتقداته حتى بين العامة في العصر الإليزابيثي.