Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Apr-2020

أفق الكتابة الشذرية.. رمزية الحيوان ومكنونات الإنسان

 الدستور-د. محمد أحمد المسعودي/ ناقد وقاص - المغرب

 
يأتي «كتاب الغين» للكاتبة تغريد أبو شاور ليشكل إضافة للكتابة الشذرية العربية التي اتخذت من رمزية الحيوان أفقا لتشكيل رؤية المبدع وتصوره وتصويره لحقيقة الإنسان ومكنوناته الوجدانية، وتصوير علاقته بالحياة والوجود والآخر.
 
وقد عرف الأدب الإنساني هذا النمط من الكتابة منذ فجر تاريخه، بحيث اتخذ الأديب من الحديث على لسان الحيوان مجالا للتعبير عن رؤية المبدع ونظرته إلى ما يجري حوله. وقد وصلتنا من هذه الآثار ما ترجمه ابن المقفع عن الفارسية، وما ألفه الفيلسوف الهندي بيدبا، وأسماه «كليلة ودمنة». وعُرف عن اليونان ما كتبه إيسوب، وفي الأدب الفرنسي اشتهر لافونتين بأشعاره المعنونة «خرافات»، وحاول في بداية القرن العشرين أحمد شوقي السير على نهجه فكتب أشعارا على لسان الحيوان موجهة للطفل، تحمل روح الحكمة وأبعادها. وتلتها محاولات طه حسين في كتابه «جنة الحيوان» والعقاد في كتابه «مجمع الأحياء» اللذين صورا فيهما نماذج إنسانية تبلورت صورتها من خلال رموز حيوانية، وقدمت طبيعة رؤية الكاتبين لمجتمعهما وما عرفه من تحولات، وما ميز جيلهما من خصوصية. كما طرحا في الكتابين أهم القضايا التي شغلتهما في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
 
وكل هذه الكتابات اتخذت النثر الخالص أو الشعر المصفى وسيلة لتصوير ما رام المبدع إيصاله إلى القارئ، غير أن «كتاب الغين» اتخذ من الكتابة الشذرية المقطعية المكثفة أداة أساس في نقل خلجات مبدعته، ونقل خلاصة نظرتها إلى الذات والآخر من حولها، وإلى الحياة والعالم. وقد جاءت هذه الشذرات زاخرة بروح التأمل، وبعد النظر، وثقل الحكمة. وهي بذلك تضرب عميقا في صلب الكتابة الشذرية التي جعلت من التأمل، والحكمة، والتكثيف عناصر جوهرية في صياغة مقوماتها وتحديد خصوصياتها. وقد ساقت الكاتبة رؤاها من خلال تأمل عالم الحيوان واستخلاص ومضات من عوالمه، أو عن طريق تدبرها في أحوال النفس الإنسانية، وأوضاع الناس الاجتماعية لتقتنص شذرات لا تخلو من قدرة على الإمتاع، والإفادة، والإثارة: إثارة أحاسيس المتلقي وزند مشاعره وتحفيز فكره على تأمل ما يجري من حوله، ومعرفة كنه ذاته.
 
تنطلق الشذرات من عالم الغاب، ولكن ليس للتغني به على طريقة جبران خليل جبران الرومانسية العذبة، -وهو شاذر آخر من رواد الكتابة الشذرية الأوائل في الأدب العربي بكتابه «رمل وزبد- وإنما ليكون هذا العالم أفقا لرؤية واقعية، تستند إلى نقد الواقع وما يعرفه من مفارقات وتناقضات، وفي سياق ساخر مفرط في شجبه لما يجري.
 
تقول الكاتبة في الشذرة 37 وهي بعنوان «الدعسوقة»:
 
« الدعسوقة العزباء، تعيش عالمها السري، كلما سمعت كلاما في الغابة ، كشفت عن سيقانها فستانها المنقط.
 
من يخبر الدعسوقة أن ليس كل كلام الغابة ألحانا ؟!»
 
هكذا تبين هذه الشذرة نظرة الكاتبة إلى عالم الغابة الذي ليس كله جمال فتان وألحان عذاب. وهي تدعو إلى تنبيه «الدعسوقة» –رمز المرأة المفتونة بذاتها التي تحسب العالم بهيا جميلا- أن ليس كل كلام الغابة يطرب ويسر، فهناك من قد يصم آذانها بكلام مؤذ مؤلم. وبهذه الكيفية كانت الشذرة واقعية في بعدها التصويري، دقيقة في تصويرها واقع الناس، وطبيعة المجتمع، واضحة في تصوير شخصية العزباء الغافلة عما يقع في عالم الناس، وطبيعة المجتمع.
 
وتقول الكاتبة في الشذرة رقم 39 التي تحمل عنوان «الديك»:
 
«شيء يدعو للضجر، صدري المنفوخ وريشي اللامع تحت الشمس، وصوتي الذي ينتزع الهدأة من الغابة، ولا تزال الدجاجات التي تعاكسني هن نفس الدجاجات!!».
 
بهذه الكتابة الهادئة تشكل تغريد أبو شاور أفق السخرية من عالم الغابة، وعبر هذه الصياغة الفنية المجازية تتمكن من نقل شعور الديك بالضجر والملل من نفسه: ريشه وصوته الذي يكسر هدوء الغابة. ومن دجاجاته التي لا تزال تعاكسنه، وهو قد أنف منهن، ويتطلع إلى غيرهن.
 
بهذه الشاكلة تمضي المبدعة صانعة عوالمها الشذرية، موظفة طاقات إبداعية متنوعة لخلق مجازاتها واستعاراتها ورموزها، ولتلقي بفيض حكمتها الداعية إلى التدبر والتأمل، ولكن مع تحقيق متعة الفن الجميل.
 
فهنيئا لها بهذا الكتاب، وهنيئا لأدبنا العربي بهذه الشذرات الفاتنة.