Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Nov-2019

فلسفة العلم.. السلطة والبيولوجيا

 الدستور-د. ماهر الصراف/ رئيس الجمعية الفلسفية الأردنية

يشير تاريخ الحضارة الإنسانية إلى تعدد مظاهر السلطة وتجلياتها عبر العصور. فلكل عصر طريقته في ممارسة السلطة. كان ميشيل فوكو قد رصد تحولا مفصليا في القرن الثامن عشر فيما يتصل بالسلطة السياسية في الغرب، والكيفية التي تمارس فيها سلطتها على الناس.
بداية لا بد من التنويه إلى حقيقة أن فوكو فضل الحديث عن تجليات ومظاهر السلطة بدلا من الحديث عن ماهية السلطة أو السلطة كما هي في ذاتها،وربما يكون هذا تقليد فلسفي غربي لا يخص فوكو وحده،حيث بقيت ماهية السلطة من الموضوعات المعرفية المستغلقة، والتي لم تكن موضوعا للبحث الفلسفي، وربما تكون ورقتنا هنا خطوة مبدئية للبحث في ماهية السلطة وجذورها المتصلة بفسيولوجية الدماغ الإنساني.وستكون هناك مقاربات مخصصة للبحث في تجليات السلطة وتحولاتها المفصلية، وأثر هذه التحولات في الخطاب، وبما يخدم موضوع بحثنا الذي يتصل باكتشاف السلطة كما هي في ذاتها.
التحول المفصلي الذي يرصده ميشيل فوكو في القرن الثامن عشر هو انتقال السلطة السياسية في الغرب لممارسة سلطتها من خلال السيطرة على الجسد، ويعتقد فوكو أن هذا التحول يتفق مع تغلغل الحداثة في كافة مفاصل الحضارة الغربية،فقد انتقلت المجتمعات الغربية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة في القرن السابع عشر، مع وجود ارهاصات لهذا التحول في نهاية القرن السادس عشر، وقد ظهرت هذه الحداثة بتجليات مختلفة سياسية وثقافية واجتماعية،وإذا كانت الحداثة الفلسفية قد تجلت في الفلسفة الديكارتية التي نقلت مركز الوجود من الله إلى الإنسان،وتجلت الحداثة المجتمعية بظهور التشكلات المجتمعية الحديثة في المدن ومأسسة هذه التشكلات، فإن الحداثة السياسية ظهرت من خلال التحول المفصلي من الحق الإلهي إلى الحق الطبيعي،فلم تعد السلطة وممارسة السلطة تستند إلى تفويض إلهي، بل أصبحت تستند إلى الحق الطبيعي المرتبط بعقد اجتماعي، ومع فقدانها لحقوقها الإلهية،لم تعد السلطات السياسية تمتلك الحق في الحياة والموت كما كان سائدا في العصور الوسطى،حيث كان الملك (ومن يفوضه)، هو الشخص الوحيد المخول بمنح الحياة أو سلبها،ومع تراجع هذا الحق وانحساره، فإن السلطة السياسية انتقلت  للبحث الدؤوب عن فضاء جديد لممارسة سلطتها بدلا من الفضاء القديم، باعتبار أن كل سلطة لا بد لها مُجلّى تتجلى من خلاله. واكتشفت السلطة السياسية أن السيطرة على الجسد هي أفضل طريقة لممارسة السلطة في عصر الحداثة، وبما أن عصر الحداثة في الغرب ترافق مع تنامي الطبقة البرجوازية وصعودها واكتسابها المزيد من السلطات السياسية من خلال الثورات البرجوازية، فقد أصبح الحفاظ على الجسد وإدارته وتوجيهه والسيطرة عليه هو (المجلى الجديد للسلطة)، وأصبحت هذه المهمة من المحددات المركزية للسلطة كون الجسد هو الحامل  للعمل الذي هو مركز العملية الإنتاجية. من هنا برز المجلى الجديد لممارسة السلطة في الغرب من خلال الجنسانية.
درس ميشيل فوكو التطور الذي حصل في الغرب فيما يتصل  بحقوق السلطة الخاصة بالموت والحياة،وقد وضع فوكو مؤلفا تحت عنوان  «حق الموت والسلطة على الحياة «،ولاحظ أن حق الموت والحياة هو احد الحقوق التي منحتها السلطة المطلقة لنفسها في العصور الوسطىوهي تعود بجذورها إلى الثقافة الرومانية التي كانت رافدا مهما من روافد الحضارة الغربية بالإضافة للرافد اليوناني.والحقوق الخاصة بالموت والحياة مستمدة من  الحقوق الممنوحة للأب الروماني بسلب حياة أبنائه متى شاء،باعتبار انه هو الذي منح لهم هذه الحياة،وقد انتقلت هذه السلطة لاحقا إلى الملك،الذي يستطيع  استنادا إلى معايير وقوانين معترف بها، ان يسلبها كما في حالة إعلان الحرب، أو سلطة الملك أن يقتل من يخالف القوانين او ينتهكها.ويرى فوكو ان السلطة السياسية الحديثة هيمنت على الحياة من خلال شكلين، الشكل الأول هو السيطرة على الجسد البيولوجي الفردي، ثم تبع ذلك تطور في ممارسة السلطة على الجسد الجمعي– الجنس البشري، وهذا يحدث على مستوى جمعي من خلال السيطرة على الولادات والوفيات والمستوى الصحي ومعدل العمر.
ثمة تحول مماثل حصل في تاريخ الإنسان، والذي يتصل أيضا بنمط ممارسة السلطة على الآخر ونحن عندما نتكلم عن ممارسة السلطة فإننا نتكلم في السياق المتصل بالتنافس من أجل البقاء. فالصراع من أجل البقاء يبقى محددا أساسيا في الحافز على السلطة. لقد كان صراع البقاء فيما مضى يتخذ شكل الإفناء للآخر، لأنها الوسيلة الوحيدة المتاحة في قهر المنافس. ولكن حصل تطور مهم في تاريخ الإنسان يتمثل بظهور الملكية، والذي جاء بعد عصر المشاعية. لقد أصبح الاستحواذ على الملكيات وسيلة أكثر تحضرا لقهر الخصم والتفوق عليه،ولم يعد ثمة حاجة للقضاء عليه.
ولكن لماذا يريد الانسان أن يسيطر؟ هل السلطة شيء غريزي؟ إذا كانت كذلك فلا بد أن يكون لها مركزا خاصا بها في الدماغ. فالدماغ هو السجل الأمين لتاريخ الإنسان البيولوجي التطوري، فهل هناك مركز مختص بالسلطة يحفز عليها ويدفع الانسان بشكل غريزي للاستحواذ عليها والاكثار منها؟
لقد انخرطت  الفلسفة الحديثة والمعاصرة بدراسة مظاهر وتجليات السلطة في فضاء السياسة والاجتماع والاقتصاد. ولكن ماهية السلطة أو السلطة كما هي في ذاتها لم تلق الاهتمام الكافي من قبل البحث الفلسفي. ثمة اعتقاد مفاده أن البحث في ماهية السلطة يعد من القضايا الفلسفية المستغلقة.ولكن هذه الورقة تشير إلى أن ماهية السلطة وجذورها يمكن أن تتم دراستها من خلال البيولوجيا أو فسيولوجية الدماغ.وتحاول الورقة التعرف على الدوافع الغريزية التي تحرك دوافع الكائن الإنساني لتملك السلطة والاستحواذ عليها. ولاعتقادنا الراسخ أن الدماغ البشري هو السجل الأمين لكافة التحولات المفصلية التي حصلت في التاريخ التطوري للإنسان وهو أشبه بالصندوق الأسود الخاص بالإنسان، فإن هذه الورقة معنية بالبحث عن المراكز المخية التي تم تشخيصها بوصفها مرتبطة بممارسة الإنسان للسلطة. لا نهدف من خلال هذه المقاربات إلى التنكر لدور السلطة في الحضارة الإنسانية، لا، ليس هذا هو الهدف من الدراسة.كان الفيلسوف بيرتراند رسل قد أشار إلى ضرورة وجود السلطة في فضاء العلاقات الإنسانية، وشبه السلطة في الواقع الإنساني بالطاقة في الواقع الفيزيائي. وما نحاول عمله في هذه المقاربات هو محاولة السيطرة على هذه السلطة ولجمها بالحدود التي تحقق من خلالها دورها الإيجابي دون تغول.أي أن ما نحاول عمله هنا هو البحث عن علاج لإدمان الإنسان على السلطة وتمكينه من استهلاك السلطة بشكل معتدل.إن ممارسة السلطة بشكل معتدل له تداعيات إيجابية على الحضارة الإنسانية،ويتصل بشكل مباشر بالتقدم والإنجاز على صعيد الأعمال.أثبتت بعض المسوحات الحديثة أن ممارسة السلطة بشكل مفرط والذي هو ناتج أساسا عن الإدمان،يقود إلى نتائج وخيمة في فضاء العمل في الشركات الكبرى.إن السيكولوجيا السيئة المترافقة مع السلطة المفرطة يمكن أن تكون عاملا مدمرا للأعمال.أشارت صحيفة وول ستريت أن الإفراط في السلطة لدى مدير شركة هيوليت باكارد قد أضر بأعمال الشركة إضرارا كبيرا مما أجبره في النهاية على مغادرة منصبه.وهكذا تتضح بشكل جلي أهمية البحوث الفسلجية حول الإدمان على السلطة وأهمية استكشاف كوابح لهذا الإدمان.وقد ظهرت أيضا أبحاث تشير إلى أن تضخم السلطة لدى الكائن الإنساني ارتبط بتلف دماغي.أشار عالم النفس كلتنر إلى أن تضخم السلطة يصيب الفص الجبهوي خلف العينين بالعطب،وهذا الفص هو المسؤول عن انتاج شعور التعاطف مع الآخرين.وأرجو أن لا يكون ثمة استغراب من اللغة الفسيولوجية التي استعملها لوصف حالات شعورية خالصة.
ثمة تجارب ربما تكون هي الاحدث في هذا الحقل، أثبتت ان صاحب السلطة يفقد مع استمرار سلطته ما يعرف بالخاصية المرآتية في دماغه. وهي ظاهرة اكتشفت حديثاً باستخدام الرنين المغناطيسي.عندما يحصل تواصل بين اثنين متحدث ومستمع، فإن المستمع المهتم ينتج اشارات عصبية تتطابق مع حركات المتحدث ولكن بدون تطبيقها اي انها تبقى إشارات كهروكيميائية تتناسق وتتوافق مع مراكز الدماغ الاخرى دون تنفيذها جسدياً خارجياً وكما قلنا تتوافق مع حركات المتحدث، ولهذا أُطلق عليها الإشارات المرآتية، حيث يكون المتلقي لحظة استماعه واهتمامه بحديث الحديث الاخر اليه عبارة عن مرآة لحركاته.
هذه الموجات المرآتية تمثل تعاطف المتلقي مع المتحدث. وقد تبين من خلال المسح بالرنين المغناطيسي ان صاحب السلطة يفقد تلك الخاصية الكهروكيميائية العصبية تدريجيا مع تملكه للسلطة، الامر الذي يعني فقدان التعاطف مع الاخر، ويزداد نقص هذا التعاطف في ادمغة اهل السلطة مع استمرار وظائفهم او قدراتهم الماليه.و يعتبر بعض الاختصاصيين ان هذا الفقدان قد يستفحل مع الوقت ويصبح متلفاَ للدماغ.هذا مثال تجريبي عن التأثيرات السلبية للسلطة على الأفراد.
يمكن القول إن ممارسة السلطة، وما يرتبط بها من شعور الفرد بالنشوة والسرور، مرتبطة بمركز في الدماغ هو مركز المكافأة، والمفاجأة التي ظهرت في الاختبارات التجريبية أن عمليات الإشباع المختلفة لهذا المركز يمكن تلبيتها حد التشبع ما عدا المركز المرتبط بحاجات محددة من ضمنها السلطة والملكية،حيث أن هذه المراكز لا تصل لحالة الرضا والتشبع مهما كانت كمية السلطة والمال التي يستحوذ عليها الفرد.وبالتالي فإن السعي الغريزي للسلطة لا يحده حد لدى الإنسان.
شرح مبسط جداً لكيفية عمل مركز المكافأة في الدماغ:
الحافز: اما ان يكون حافزا خارجياً مثل رؤية الطعام او حافزاً داخلياً مثل هبوط السكر في الدم. الحث:  يحث هذا الحافز الدماغ العاطفي ومنه ينتقل الى القشرة الدماغية.الرغبة: يسجل ذلك في العقل ليتحول الى رغبة واعية.الفعل:  اذا ما سجلت في العقل الواعي كرغبة يصدر العقل اوامر الفعل.
المكافأة: تصل اوامر الفعل للتوصيلات العصبية. السعادة: فترفع هذه الموصلات مستوى الدوبامين الذي يسبب الشعور بالسعادة والراحة، أي أنها أشبه بلعبة بينج بونج بين العقل الواعي والعقل الحافي. وما يهمنا هنا ان نبين انه لا يوجد اي فرامل كالتي رأيناها في العقل البدائي او القديم لذلك فمن السهل ان يتحول الحافز الوقتي الى ادمان.يحتوي مركز المكافأة على كل المتطلبات التي تخص الانسان العاقل وهي الحب والجنس والمال والسلطة والقمار والمغامرة والكحول والمخدرات.
والغريب ان آلية عمل مراكز المكافأة تختلف من صفة الى أخرى ففي الاكل يتحمس مركز المكافأه حال حصوله على بعض الاطعمة اللذيذة مثل الشوكولاته،لكن هذا الحماس يخف مع تكرار العرض في نفس اللحظة ونفس الميكانيكية تحصل مع الجنس،فان الانسان يخف في رغبته الجنسية مع الشريك مع تقدم الوقت.
في المقابل فان بعض آليات المكافأة كالمخدرات والكحول تتحول المكافأة الاولى الى ادمان مع تكرار حصول الشخص عليها.
وللاسف فان السلطة و الملكية تتبع القسم الثاني من صفات الدماغ،اي انهما فاقدان للفرامل الموجودة في العقل البدائي وبالتالي فان الانسان يتحول الى مدمن على كليهما ومستعد لعمل الكثير للوصول اليهما دون الاحساس بالشبع او النفور كما هو في المثال الاول.
ترتبط عملية السيطرة على حالات الإشباع في مركز المكافأة بإفراز هرمونات أهمها الدوبامين الذي يمنح شعورا بالرضا عندما يتم تلبية الرغبة المرتبطة بمركز ما.ويمكن مقارنة ذلك بآلية تنظيم الإشباع المرتبط بالطعام،حيث تساعد الهرمونات التي تصل للمراكز المخية على كبح الرغبة في الأكل عندما يصل الإنسان حالة الشبع.وفيما يتصل بموضوع السلطة، فإن من المفترض أن يكون لدى الإنسان كوابح هرمونية تو عصبونية ساعده على التوقف عن طلب السلطة في نقطة ما يكون قد استحوذ فيها على قدر كاف من السلطة. ولكن هذه الآلية غير موجودة البتة في جسم الإنسان، أو يمكن القول بشكل أدق أنه لم يطور بعد مثل هذه الآليات،والتي ربما تكون متاحة مستقبلا.فإذا كان اعتقادنا صائبا حول اعتبار الإدمان على السلطة صفة تطورية ليست لصالح البقاء، فإن من المرجح أن يتطور النوع الإنساني بالاتجاه الذي يعزز ظهور كوابح هرمونية او دماعية تجعل من استهلاك الإنسان للسلطة مقيدا بحاجته لهذه للسلطة وليس أكثر من ذلك.
يمكن تشبيه الخلل البيولوجي المرتبط بالإدمان على السلطة بمرض نقص المناعة.فكما أن هناك مرضا لنقص في المناعة ضد الأمراض البيولوجية،فإن هناك خللا يمكن نعته بمرض نقص  الشعور بالمكافأة  الكافية المرتبط برغبة ما.وفي حالة السلطة،فإن هذا العوز موجود بالفعل،إذ يبقى الإنسان في حالة عوز دائم،مما يدفعه لطلب المزيد من السلطة.وإذا كان مرض نقص المناعة يسببه فيروس مشخص هو الـ  HIVفإن الذي يسبب مرض العوز السلطوي هو الادمان  على ذلك الذي لا كابح له.
لا أستطيع الإدعاء أن الاختبارات الفسلجية حول الدماغ قد تم استكمالها للحد الذي يمكننا فيه التكلم بوثوقية حول أنماط الشعور الإنساني وما يقابلها من مراكز دماغية.ولكني أؤكد لكم أن ثمة إنجازات كبيرة في هذا الخصوص،حيث وفرت تقنيات المسح الحديثة فرصة لرصد المراكز الدماغية الفاعلة في وقت ما وربطها مع الحالة الشعورية المناظرة لها وصولا للربط السببي بينهما.ثمة اعتقاد بأن عمليات مسح الدماغ والتعرف على الطوبوغرافيا الخاصة به ستمكن من فك أسراره وصولا لدراسته بشكل تفصيلي كما ندرس عمل أي عضو مثل القلب أو الكلية.ولا أخفيكم أنني أحد المتحمسين والمؤمنين بذلك والذي أجزم أنه سيتحقق في أقل من قرن.فإذا كان تاريخ العلم قد شهد ثورتين كبيرتين هما ثورة الفيزياء التي بلغت ذروتها في فيزياء نيوتن،وثورة البيولوجيا التي بلغت ذروته في نظرية التطور الداروينية،فإن الثورة الحالية الجارية هي ثورة الفسلجة الدماغية التي ستصل ذروتها في العقود القادمة بحل كافة الوصلات الكهروكيميائية وتفاصيل الدوائر الكهربائية ورسم خارطة دقيقة للدماغ.وإذا كان ثمة فجوة كبيرة بين مفهوم العقل والدماغ في الوقت الراهن، فإن من المؤمل أن تتقلص هذه الفجوة وصولا للمطابقة بينهما من خلال معرفة كافة المراكز الدماغية المناظرة للنشاطات العقلية.