الدستور-د. محمد عبدالله القواسمة
من الملاحظ أن الروائيين في الغرب اهتموا اهتمامًا كبيرًا بالرواية البوليسية منذ نشأتها على يد الأديب الأمريكي إدجار آلن بو، الذي وضع الأساس لهذا الشكل الروائي في روايته القصيرة «جرائم شارع مورج» عام 1841. فهي تعد النموذج الروائي الذي تمثلت فيه العناصر البوليسية من جريمة، ومجرم، ومحقق أو مخبر.
من مظاهر هذا الاهتمام كثرة ما يصدر من الروايات البوليسية في العالم الغربي، لتروي عطش القارئ لهذا النوع من الأدب، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فمازالت جريدة «نيويورك تايمز» تنشر في ملحقها الأدبي عناوين روايات بوليسية أكثر مبيعًا، أمثال روايات: جيمس باترسون، وجون جريشام، وسدني شلدون، وستيفن كنج الذي اشتهرت رواياته شهرة واسعة، وظهرت في أفلام ومسلسلات سينمائية.
كما أن كثيرًا من الكتّاب الأمريكيين يضمنون أعمالهم الروائية أحداثًا بوليسية، تقوم على القتل، وتتطلب البحث والتحري للوصول إلى الجاني. كما في أعمال فيليب روث، وكارول أوتس، وبول أوستير في روايته «ثلاثية نيويورك».
ولعل سر لجوء الروائيين الغربيين إلى كتابة الرواية البوليسية، أو استخدام عناصر منها في رواياتهم أنها أكثر الأشكال الروائية شعبية، فهي الفن الذي يستجيب للواقع الغربي ويتلاءم معه على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وهو واقع يغص بالعنف والقسوة والأنانية، وينطبق هذا على ما نشاهده في السينما الغربية التي تستند إلى أحداث بوليسية دامية، كما في سلسلة «العميل 007 جيمس بوند» التي تقوم على أحداث عنيفة مستمدة من عالم الجوسسة.
أما في عالمنا العربي فلم يقبل الروائيون على كتابة الرواية البوليسية، ولم ينجب الأدب العربي الحديث شخصيات بوليسية مُماثلة لما أنجز في الغرب، لكن الأدباء العرب كتبوا روايات قريبة من الرواية البوليسية، روايات احتوت أحداثًا عنيفة، كما في رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» ورواية «السؤال» لغالب هلسا. وكذلك توجد روايات بوليسية نسجها روائيون في السجون، وبخاصة السجون في فلسطين المحتلة، وزخرت بأحداث عنيفة ودامية في أثناء مقاومة المحتل الإسرائيلي، مثل: رواية «قناع بلون السماء»، للأسير الفلسطيني باسم خندقجي، التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها السابعة عشرة.
لعل عدم إقبال الروائي العربي على كتابة الرواية البوليسية يعود إلى أن الواقع العربي لم تتطور فيه الجريمة لتكون على مستوى البلدان الأجنبية، وهو واقع طافح بعقبات كثيرة تحد من التوجه إلى كتابة هذا النوع من الرواية، منها حرية البحث والتحري، ومواجهة حقائق الواقع؛ فلا مجال للخيال في تقديم الواقع في الرواية البوليسية؛ لأن هدفها كشف الجريمة، وحل لغزها بواسطة محقق حيادي خاص.
في المقابل فإن القارئ العربي تعرف إلى أشهر الروائيين في الغرب، في مقدمتهم آرثر كونان دويل، الذي ابتدع شخصية شرلوك هولمز عام 1887م في رواية «دراسة في اللون القرمزي»، ثم ظهر هولمز في رواية «علامة الأربعة «. ولكنه اشتهر كثيرًا عند القراء العرب في رواية «فضيحة في بوهيميا». وقد ابتكر آرثر كونان دويل شخصية الدكتور واطسون، لتساعد هولمز على تحقيقاته، وتضفي المرح على أحداث الرواية، التي تحيط بها الأسرار والألغاز.
وتعرف القارئ العربي إلى ملكة الرواية البوليسية أجاثا كريستي(1890–1976م) التي أبدعت روايات بوليسية كثيرة مثل: «عشرة هنود صغار»، ثم «جريمة على النيل»، و»قطار الشرق السريع». وابتكرت شخصية المحقق هركيول بوارو. كما تعرف إلى الروائي الفرنسي موريس لبلان (1864–1941م) الذي اكتشف شخصيته الشهيرة أرسين لوبين، الذي قدمه في رواياته لصًّا ظريفًا حاذقًا، فكأنه نسخة من شخصية روبين هود.
لقد أقبل القراء العرب على قراءة الرواية البوليسية؛ لشعبيتها وسهولتها ومغامراتها الشائقة، ولأنها توفر لهم المتعة والتسلية، وتنشط عقولهم، وتزيد معرفتهم بنوازع النفس، كما تثري رغبتهم في الإثارة، وفك الألغاز. ورأينا أن شهرة المحققين شرلوك هولمز، وأرسين لوبين، وبوارو أكثر شهرة من مبتكريها بل أكثر شهرة من شهرة راسلينكوف بطل رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب»، وأشهر من أبطال التاريخ وزعماء العالم.
هكذا فإن الرواية البوليسية حظيت باهتمام الروائيين والقراء في البلاد العربية والأجنبية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر. وإذا كان الروائيون في الغرب برعوا في إبداع هذا الشكل الروائي فإن الروائيين العرب بقوا على تخومه فقط؛ لأن واقعهم لا يتلاءم مع الرواية البوليسية، خاصة وأنها فن الواقع، الواقع الشعبي في الدرجة الأولى؛ أما القراء العرب فاكتفوا بالاطلاع على الروايات المترجمة.