Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Jun-2020

التشكيلي المغربي توفيق شيشاني… وجوه من عالمنا

 القدس العربي- إبراهيم الحَيْسن

يجمع التشكيلي المغربي توفيق شيشاني بين تخصُّصات فنية عديدة، منها الغرافيك والتصميم الجمالي، وإبداع اللوحة الصباغية بأسلوب تجريدي تعبيري.. وتعبيري تجريدي إلى جانب امتهانه لتدريس الفنون التشكيلية في مدينة الدار البيضاء. غير أننا سنتناول في هذه المقالة تجربة الفنان في رسم الوجوه والبورتريهات، التي عاد إليها قويّاً بحسٍّ تعبيري مُغاير، تحتشد فيه مجموعة من الخطوط الغرافيكية الإقلالية، والرسوم السريعة التي تنمُّ عن مهارة متقدمة في التحبير والتلوين.
وقد أظهرت الأعمال الفنية الراهنة التي بدأ ينفذها شيشاني منذ سنتين، بأنه صار متخصِّصاً في رسم الوجوه الشاردة، المذهولة والمتأمِّلة.. وجوه ملأى بالدينامية الفنية التي باتت تشغل موضوعه المحوري وثيمته الأثيرية..
تُرى، من يكون هؤلاء الذين قرَّر الفنان رسمهم وبهذه الأساليب الفنية التي لا تخلو في بعض الأحيان من مسحة شبه كاريكاتيرية؟ هل هم أصدقاؤه أم أفراد من أسرته؟ سياسيون؟ مثقفون؟ مبدعون عالميون، دالي، بيكاسو، كليمت مثلاً؟ أم هم فقط وجوه متخيَّلة بسمات وملامح قد نصادفها هنا أو هناك؟ لست أدري؟ في كل الحالات هي بورتريهات من نوع خاص، لا عناوين لها وتحمل خلفها سحنات لشخوص قد نعرفهم وقد نجهلهم، أليس «كل إنسان يحمل وجهه، لكنَّه ليس الوجه نفسه أبداً»، كما يقول لوبروتون (1992).
هذه الوجوه تختلف عن بورتريهات التشكيلية المعاصرة مارلين دوماس من جنوب افريقيا، لكن البعض منها يتقاطع مع تجربة الرسام النمساوي إيغون شييل من خلال الوجوه، التي يرسمها غالباً بصبغات الغواش، والأقلام التلوينية على سنائد من الكانفا والورق، التي تبدو شاحبة بعيون فارغة مندهشة، وأصابع طويلة.. يا لها من صدفة، ويا له من تناص بصري جميل.
 
 
إنها بورتريهات ووجوه مليئة بالإحساس، تحيا فينا وتمشي معنا، ووجوه حية تنبض بالأمل والحياة.. يغترفها الفنان من مخزونه البصري ومن رغبته الإبداعية في تصوير ما يُريد بأيسر الخطوط، وأوجز الصبغات، بدون إيغال في التعقيد والتكثيف، باستعمال تقنيات فنية جديدة تتعدَّد وتتمازج فيها المواد والخامات، حيث الأنامل تتلاعب بالحبر المدمج مع مسحوق الجوز، والأقلام الفحمية والشمعية والصبغات الخفيفة، التي يقوم بتوقيعها على الورق والقماش بطرق سريعة وخاطفة، توحي لنا بأن الفنان يلهو ويلعب ويُبدع على خطى التعبيريين الجدد Nouveaux expressionnistes، مع أن للفنان شيشاني من الإمكانيات الإبداعية، ما يجعله مميَّزاً ومستقلاً عن كل استعارة أو تشبيه..
في ملامح هذه الوجوه البشرية لا مجال للعبث أو الخروج عن المألوف بلغة الغروتيسك (كما عند المسرحيين السيرياليين)، لأنها واقفة تعلن جرأتها ولا تخفي أسرارها.. وجوه هادئة وحالمة، تقوم بالأساس على التوازن الكائن بين الكتل والسطوح، مثلما تراهن على تعبيرية الخطوط والرسم المباشر، وأحياناً بدون توقف لتبدو في شكل خط واحد متشابك، تكثر فيه الانحناءات والتكوُّرات وأشكال المحو والتبصيم، يبدأ تنفـــــــيذها من نقطة ولا ينتــــهي ســـوى باكتمال الرسم الذي يبدو في كثير من الأحيان غير ذلك Inachevé، وهنا تكمن المفارقة.. هي ذي لعبة الفنان الذي يظهر وكأنه يرسم بأعين مغمضة، فالوجوه موشومة ومحفورة في ذهنه، لذلك فهو لا يخطئ الدروب والممرَّات، والوجوه في لوحاته لم تقم على موديلات حية، لتظل بذلك عاكسة لمهارة ذهنية ويدوية شديدة التأثير. لهذه الوجوه حكايات خاصة مأخوذة من تجارب الفنان وعلاقاته الاجتماعية، ومن الصور المترسخة في ذاكرته البصرية لفترات متباينة، لتخرج إلى حيِّز الوجود، حيث الفكر يقرِّر واليد تنفذ.. هنا يعلن الوجه حضوره كجزء من جغرافيا الجسد الإنساني.
وجوه بأعين جاحظة وأخرى معصوبة، أنوف طويلة وأخرى عريضة، وأفواه مسدودة بشفاه ضمياء تلين تحتها الأضراس – كما في وصف العرب- في مقابل آذان مختزلة تظهر وتختفي حسب حالات الرسم وإيقاعاته السريعة، التي لا تخلو من خدوشات وإمضاءات.. إنها نوع من الألغاز التي يدعونا الفنان إلى تمثلها وتأويلها بشكل مستمر في حدود بناءات الوجوه ونظراتها الآسرة، التي تنصهر داخل الأشكال المبتكرة والنماذج المرسومة.
وكثيراً ما تستوقفنا هذه الوجوه المبدعة، وتدعونا لسفر رمزي نحو عوالم شتى مفتوحة على التخييل، فهي تحمل هويات مختلفة تقرِّرها بنياتها العضوية، وزمن ولادتها المؤسَّسة على تضاد في الأشكال والكتل المؤسرة بخطوط شاملة، غليظة ورقيقة، منفلتة أحياناً، لكنَّها مع ذلك تظل ملتصقة بأصحابها وخاضعة، من حيث التكنيك، لخصوصية الرسم المعاصر بمراعاة تشريح الشكل وتوليف عناصر التكوين. إنها وجوه من عالمنا نرى فيها شيئاً من ذواتنا، كلما أعدنا النظر إليها في حالات واسعة من الإبصار والتحدق البصري.. إنها نحن في حدود جسديتنا Corporeité التي لا تقبل المزايدة على إنسانيتنا وطبيعتنا البشرية المشتركة..
هكذا يبدع توفيق شيشاني مختبئاً في مرسمه.. وهكذا نقرأ «وجوهه» المتعدِّدة التي لا تتشابه ولا تتقابل سوى داخل محراب الإبداع، وعبر منطلق النشوء والتكوُّن المطبوع ببراعة الفن وقدسية الجمال..
 
٭ ناقد تشكيلي من المغرب