Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    23-Jul-2019

نعوم تشومسكي: عن “العنف والكرامة” في الشرق الأوسط، محاضرة “إدوارد سعيد” 2013 (2-2)

 الغد-نعوم تشومسكي* – (لندن ريفيو أف بوكس)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
يتعين على الأوروبيين أن لا ينسوا مشاركتهم الاختيارية الراغبة في المرحلة الأخيرة من عصر التعذيب في واشنطن؛ وأقول “المرحلة الأخيرة” بسبب وفرة السوابق. وقد أصدر معهد المجتمع المفتوح لتوّه دراسته المعنونة “عولمة التعذيب: الاعتقالات السرية وعمليات التسليم الاستثنائي لوكالة المخابرات المركزية الأميركية”، والتي تظهر أن 54 دولة شاركت في هذه الحملة، بما في ذلك دول معظم أوروبا. وكانت منطقة واحدة من العالم مستثناة فقط: أميركا اللاتينية. كانت وحدها تقريباً هي التي رفضت المشاركة في عولمة التعذيب. وهذه حقيقة بالغة الأهمية. فقبل بضع سنوات فقط، كانت أميركا اللاتينية ما تزال تشكل “الفناء الخلفي” المطيع لواشنطن، وواحدة من عواصم التعذيب الرئيسية في العالم -من بين أهوال أخرى- في سياق حرب واشنطن على الاستقلال والحرية في نصف القرن الماضي. لكنها لم تعد كذلك. ويمكن للمرء أن يعرف بسهولة السبب في أن النخب الغربية أصبحت بالغة القلق من تهديد الديمقراطية، وملتزمة جداً بالحد منها، وآخر ذلك في منطقة الشرق الأوسط.
لا تعرف إدانة الغرب للمعاملة الوحشية التي يعانيها المعارضون في مناطق روسيا حدوداً، لكن على المرء البحث والتنقيب للعثور على بعض الاعتراف بحقيقة أنه في الفترة من العام 1960 وحتى “انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990، تجاوزت أعداد السجناء السياسيين وضحايا التعذيب والإعدام من المعارضين السياسيين غير العنيفين في أميركا اللاتينية بقدر كبير نظيراتها في الاتحاد السوفياتي ومداره في أوروبا الشرقية”. وكما ذكر المؤرخ جون غوتسويرث في كتابه الصادر عن جامعة كيمبريدج “تاريخ الحرب الباردة”، كان من بين الذين أعدموا العديد من الشهداء الدينيين، ضحايا حرب واشنطن المتحمسة ضد الكنيسة بعد “الفاتيكان الثاني” في العام 1962، الذي سعى إلى استعادة الانجيل و”اختياره التفضيلي للفقراء”. وكانت “المدرسة” في الأميركتين، التي دربت القتلة الأميركيين اللاتينيين، تعلن بكل افتخار أن الجيش الأميركي ساعد على إلحاق الهزيمة بلاهوت التحرير، الذي روج الهرطقة والبدع التي لا يمكن التسامح معها.
تشكل الحاجة إلى إذلال أولئك الذين يجرؤون على رفع رؤوسهم عنصراً متأصلاً في عقلية الإمبريالية. وبالاستشهاد بحالة واحدة فقط، ظهر المعلق الليبرالي البارز في صحيفة نيويورك تايمز، والمتخصص أيضاً في شؤون الشرق الأوسط، توماس فريدمان، في أحد البرامج الحوارية النادرة في التلفزيون الأميركي في شهر أيار (مايو) 2003. وسأله المضيف عن توصياته لجيش الاحتلال الأميركي-البريطاني في العراق. وكانت إجابته بليغة وصريحة:
“إننا نحتاج للذهاب إلى هناك، في الأساس، وغرس عصاً غليظة، تماماً في قلب ذلك العالم… إن ما كان (المسلمون) يحتاجون إلى رؤيته هو الفتيات والفتيان الأميركيون وهم يتنقلون من منزل إلى آخر في كل المسافة من البصرة إلى بغداد، ويقولون للناس بشكل أساسي: “أي جزء من هذه الجملة هو الذي لا تفهمونه؟ أتظنون أننا لا نهتم بشأن مجتمعنا المفتوح؟ هل كنتم تعتقدون بأننا سنترك هذه الفقاعة من وهم (الإرهاب) تنمو؟ حسناً، إليكم هذا!”، وباختصار، فإن جرعة شديدة من الإذلال التي يقدمها الفتيات والفتيان الأميركيون سوف تُبلغ النساء والأطفال المرتعبين في المنازل التي يقتحمونها بأن من الأفضل لهم أن يتوقفوا عن إرهابنا. وكالعادة، استدرج ذلك الحديث القليل من التعليق سوى من العاطفيين المضلَّلين المعتادين.
إن الحاجة، ليس للسيطرة على الضحايا فقط، وإنما لإذلالهم، هي طبيعة ثانية للقادة السياسيين أيضاً. وجاءت إحدى الحالات الدالة في هذا السياق في العام 1988، عندما قبِل المجلس الوطني الفلسطيني رسمياً بالإجماع الدولي على حل قائم على أساس الدولتين. كانت الولايات المتحدة تصبح في ذلك الوقت موضعاً للتندر العالمي بسبب عدم استعدادها لسماع دعوة ياسر عرفات إلى الدبلوماسية السلمية. وشرح الأسباب وزير الخارجية جورج شولتز في مذكراته. كان قد أبلغ رئيسه رونالد ريغان بأن عرفات يقول في أحد الأماكن: “عم، عم، عم” وفي مكان آخر: “مي، مي، مي”، لكنه لم يستطيع أن يجعل نفسه يقول، في أي مكان واحد: “عمي” مرة واحدة بنغمة الاستسلام الذليل المتوقع من الطبقات الأدنى.
ومن جهتها، سمعت إسرائيل الدعوة تسوية سياسية، وكان رد فعلها هو إعلان أنه يمكن أن تكون هناك “دولة فلسطينية إضافية” بين إسرائيل والأردن -دولة فلسطينية بشروط إسرائيلية، بغض النظر عما قد يظنه العرب. وقد أيدت واشنطن بسرعة الرد الإسرائيلي في خطة جيمس بيكر في كانون الأول (ديسمبر) 1989. وقد أزيل كل ذلك من التاريخ إلى حد كبير.
ليس ثمة حاجة إلى استخراج عينات من هذا المبدأ في التاريخ الإمبريالي. كانت إحدى الحالات التي ربما لم ينسها الضحايا هي موقف مسؤولي شركة البترول الأنجلو-إيرانية تجاه “غير البيض” في أيام مجد الشركة في إيران: الطريقة الوحيدة للتعامل معهم هي “تخويفهم وترويعهم لإجبارهم على الخضوع”، مع إبقاء القبضة الحديدية مرفوعة في وجوههم دائماً عندما لا تكون الوسائل الأكثر لطفاً كافية. وقد تعرض الزعيم الإيراني الشجاع والجليل المنتخب، محمد مصدق، إلى سوء المعاملة والإذلال من الحكومة البريطانية والطبقات المتعلمة، في الولايات المتحدة أيضاً، لأنه سعى إلى تحصيل حق إيران في السيطرة على مواردها الذاتية -“مواردنا،” كما يشار إليها عادة في الوثائق الداخلية، التي صادف أنها كانت موجودة في مكان آخر. وبوصفه دستورياً مخلصاً، التزم مصدق بوسائل غير عنيفة بالكامل، ودفع ثمن ذلك بالانقلاب العسكري الأميركي-البريطاني ضده في العام 1953، والذي قوبل بالكثير من الإشادة في الغرب. وقد أوضح محررو صحيفة “نيويورك تايمز” بجديّة أنه “أصبح لدى البلدان النامية الغنية بالموارد الآن درس جاهز لتتعلمه عن الكلفة الباهظة التي ترتب أن تدفعها إحداها، بعد أن أخذتها حماسة المشاعر القومية المتعصبة. ربما يكون من المفرط أن نأمل بأن تمنع تجربة إيران صعود “مصدَّقين” آخرين في بلدان أخرى، ولكن هذه التجربة قد تقوي على الأقل مواقف قادة أكثر عقلانية وبعد نظر، ممن ينطوون على فهم واضح لمبادئ السلوك اللائق”. وقد فعلت التجربة ذلك، لسنوات عديدة، على الرغم من أنه لم يعد بالوسع، بحلول السبعينيات، سحق تيار القومية المستقلة باستخدام العنف.
ثمة مواقف تكون قريبة جداً من السطح، بحيث أنها تظهر لدى أدنى استفزاز. حدث ذلك مباشرة عندما أكد “غير البيض” حقوقهم في وقت مبكر من السبعينيات، وسعوا إلى التغلب على الانخفاض الحاد في أسعار النفط قياساً بغيره من السلع، والذي كان مفيداً جداً للغرب بفضل ضوابطه الفعالة. ولاحظ المفكر البارز إيرفينغ كريستول، أحد عرابي الفكر المحافظ المعاصر، أن “الدول غير المهمة، مثل الناس غير المهمين، يمكن أن تصاب سريعاً بأوهام الأهمية الذاتية”، والتي يجب طردها من عقولهم البدائية بالقوة: “في الحقيقة”، كما أوضح كريستول، “لم تنته أيام ‘الدبلوماسية الحربية’ أبداً… الدبلوماسية الحربية هي أمر ضروري للنظام الدولي، تماماً مثلما هي سيارات الشرطة للنظام الداخلي”. وما تزال أصداء هذه الأفكار تتردد على نطاق واسع حتى الآن.
لقد فهم المحتلون الإسرائيليون لما كان ينبغي أن نسميه الآن “دولة فلسطين” أيضاً بشكل جيد للغاية فعالية الإذلال كسلاح ضد السعي إلى حياة كريمة. كان الإذلال سمة ثابتة للاحتلال، وأحياناً بشكل فاحش يتجاوز كل الحدود -حتى أنه يمكن أن يستدعي الانتباه العام. قبل ثلاثين عاماً، قدم القادة السياسيون، بمن فيهم البعض من أبرز الصقور، إلى رئيس الوزراء مناحيم بيغن رواية صادمة ومفصلة جداً عن الكيفية التي يسيء بها المستوطنون إلى الفلسطينيين بانتظام بأكثر الطرق لؤماً وفساداً، مع الإفلات التام من العقاب. وكتب المحلل العسكري-السياسي البارز يورام بيري، باشمئزاز، أن مهمة الجيش ليست الدفاع عن الدولة، وإنما “تقويض حقوق الناس الأبرياء لمجرد أنهم ‘عربوشيم’ يعيشون في الأراضي التي وعدنا الله بها”. و”عربوشيم” كلمة عامية تناظر كلمة “الزنوج”. وأضاف أحد المثقفين الإسرائيليين البارزين، بواز إيفرون، ساخراً، أن إسرائيل يجب أن تبقي على العربوشيم “تحت السيطرة” حتى يدركوا “أن السوط مرفوع فوق رؤوسهم دائماً”. وبما أنه ليس هناك الكثير من الناس الذين يُقتلون بشكل مرئي، فإنه يمكن بعد ذلك للإنسانيين الغربيين “قبول الأمر كله بسلام، (وهم يسألون): ما هو الشيء الفظيع جداً في هذا؟”.
ثمة الكثير من الأدلة على أن الاحتلال الإسرائيلي وضع يده على جوهر مفهوم الأخلاق الغربي بدقة متناهية. أحياناً، يمكن أن تتخذ الإهانة أشكالاً أكثر دهاء بعض الشيء. وكان أحد هذه الأشكال موضوعاً لمحاضرة ألقيت هنا قبل عامين في تكريم إدوارد سعيد، والتي قدمها رشيد الخالدي، بعنوان “كرامة الإنسان في القدس”. وعرض الخالدي مشروعاً لمركز سيمون فيزنتال -مكرساً لتعزيز “حقوق الإنسان وكرامته”- من خلال بناء “مركز الكرامة الإنسانية” في القدس. وكان الموقع الذي اختاره جماعة فيزنتال لإقامة البناء هو مقبرة ماميلا “مأمن الله”، أكثر أماكن الدفن الإسلامية تبجيلاً في فلسطين؛ حيث يقال إن أصحاب النبي، والعديد من الشخصيات الكريمة الأخرى، مدفونون هناك. وكان قد تم مسبقاً تحويل أجزاء من المقبرة إلى موقف للسيارات وموقع “ساحة الاستقلال” الإسرائيلية. وفي الشريعة الإسلامية، كما هو الحال في الديانات الأخرى، “تعد حرمة المقابر أبدية”، كما يعلق الخالدي. ولا يمكن أن تخطر فكرة تدنيس مقبرة من أجل بناء “مركز الكرامة الإنسانية” على بال أحد سوى أولئك العاكفين على إذلال ضحاياهم -حتى أنهم لا يعودون يدركون ما يفعلون. وقد رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً لمنع إقامة المشروع.
أخيراً، أود أن أتناول بإيجاز كيف تنشأ هذه المظاهر في قضايا السياسة الخارجية التي تتسم بأهمية رئيسية بالنسبة لصانعي السياسة والطبقة السياسية في أميركا، على الأقل إذا ما حكمنا من المناظرات الرئاسية، وجلسات استماع مجلس الشيوخ لتشاك هيغل، والتغطية التي حظيت بها.
في مناقشات السياسة الخارجية، هيمن بلدان على المناقشات بطريقة غامرة: إسرائيل وإيران. وقد تنافس أوباما ورومني في إعلان ولائهما الأبدي لإسرائيل، وفي تحديد إيران باعتبارها أكبر تهديد للسلام العالمي. وفي جلسات الاستماع إلى هيغل، ورد ذكر إسرائيل 136 مرة، وإيران 135 مرة، مع ذكر متفرق لآخرين: وتم توبيخ هيغل -من قبل الجمهوريين، وهي حقيقة جديرة ببعض الاهتمام- لأنه لم يكن موالياً بما يكفي لإسرائيل، ولأنه لم يكن مخلصاً بما يكفي لهدف قصف إيران إذا لم تستسلم قريباً.
في حالة إسرائيل، هناك شبه إجماع قائم منذ فترة طويلة على ضرورة التوصل إلى تسوية دبلوماسية، والتي عطلتها الولايات المتحدة لمدة 35 عاماً بقبول ضمني من أوروبا. واستطعت التفكير في بعض الأسباب. ويشكل ازدراء الضحايا الذين لا قيمة لهم جزءاً غير قليل من الحاجز أمام تحقيق تسوية تنطوي على بعض العدالة واحترام كرامة الإنسان وحقوقه على الأقل. وليست إمكانية التغلب على هذا الحاجز بالعمل المتفاني مستحيلة، كما حدث في حالات أخرى.
في موضوع إيران، أود أن أوصي بمطالعة حديث جميل أدلى به جون سنو في حزيران (يونيو) 2012، “محاضرة حديقة الرب التذكارية” في تشاتام هاوس. ويعرف سنو إيران جيداً، وكان لديه الكثير من الكلام المفيد ليقوله. كانت فكرته الرئيسية هي أن الغرب يجب أن يتغلب على ازدرائه لإيران وشعبها. وختم حديثه بالدعوة إلى “الاحترام، الاحترام، الاحترام”. يجب علينا احترام إيران، وتاريخها، وحضارتها، في حين نجعل من الواضح تماماً أيضاً أننا ندين حكومتها. ينبغي أن ننخرط مع إيران، بالتجارة، بالتبادل الثقافي. ويستحضر سنو حالة ناجحة للغاية -معرضاً تعاونياً للكنوز الفنية الإيرانية أقامه المتحف البريطاني وإيران. وثمة مثال آخر هو المؤتمر الدولي حول فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز الذي عقد في طهران في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وفي الاجتماعات الأخيرة للجمعية الأميركية لتقدم العلوم، وصف المشاركون الأميركيون إيران بأنها “نموذج يُحتذى لباقي دول المنطقة” في استجابتها لمرض الإيدز، وأضافوا أنه “يمكننا أن نتعلم الكثير مما يفعله الإيرانيون”، وأقروا أيضاً بأن جهود إيران في هذا الصدد تعيقها الآن العقوبات القاسية.
لكن الخطوة الأكثر أهمية، كما أكد سنو، ستكون التغلب على الازدراء الذي قاد توجهات الغرب منذ قرن، أولاً بريطانيا، ثم الولايات المتحدة التي حلت إلى حد كبير محل بريطانيا في العام 1953 في الإطاحة بالحكومة البرلمانية وتثبيت دكتاتورية الشاه القاسية. لن أستعرض السجل المخزي للاحتقار والإهانة المبيتة التي مورست ضد إيران، لأن هذا الموضوع مستكشف بعمق في الدراسة العلمية الأكثر أهمية للانقلاب على مصدق، عمل إيرفاند أبراهاميان بالغ الكشف، الذي صدر للتو. وينبغي أن يثير العمل مشاعر الخجل والندم العميق في ضمير الولايات المتحدة وبريطانيا. وعلينا أن نتذكر أيضاً أنه لم يمر يوم واحد في السنوات الستين الماضية، والذي لم تعكف فيه الولايات المتحدة وبريطانيا على معاقبة إيران بوحشية -أولاً عن طريق تثبيت ودعم الشاه، ثم من خلال دعم عُدوان صدام حسين، تلته العقوبات القاسية، والآن بالتهديد الصريح بشن الحرب- في انتهاك لميثاق الأمم المتحدة، إذا كان أحد ليهتم.
القضية الراهنة هي برنامج إيران النووي. وربما نسأل الذين يشاركون الغرب تصوره عما إذا كان هذا هو أخطر تهديد للسلام العالمي. من السهل الإجابة عن ذلك. لكن هذا الهاجس لا تتقاسمه دول عدم الانحياز، معظم دول العالم، التي تواصل دعمها القوي لحق إيران في تخصيب اليورانيوم. ولا يتقاسمه العالم العربي، حيث السكان عموماً لا يحبون إيران، لكنهم لا يرون فيها الكثير من التهديد. إنهم يدركون التهديدات، بطبيعة الحال: إسرائيل والولايات المتحدة في المقام الأول. أعني الشعوب. لكن التعليق الغربي يفضل البقاء مع جوقة أباطرة النفط، الذين يرون إيران بوصفها تهديداً.
ثانيا، أياً تكن طبيعة التهديد الإيراني المزعوم، هل هناك طريقة لمعالجته غير العقوبات التي تعاقب السكان، والحرب؟ إحدى الطرق قد تكون محاولة تجديد اتفاق طهران الذي أُبرم في أيار (مايو) 2010، عندما قبلت إيران اقتراحاً تركياً-برازيلياً بإرسال اليورانيوم منخفض التخصيب إلى تركيا، في حين تقوم القوى النووية بتلبية احتياجات إيران اللازمة لتشغيل مفاعلاتها الطبية. وقد هرعت حكومة الولايات المتحدة ووسائل الإعلام إلى إدانة تركيا والبرازيل بشدة، بسبب تغلبهما على أخطر تهديد للسلام العالمي، واندفع أوباما فوراً إلى استصدار العقوبات في الأمم المتحدة. وفي حينه، قام وزير الخارجية البرازيلي، المنزعج، بنشر رسالة من أوباما إلى الرئيس لولا دا سيلفا، والتي يقترح فيها بالضبط ما حققته تركيا والبرازيل، ربما متوقعاً أن إيران سترفض الاقتراح، وبما يوفر له نقطة دعائية. لكن الولايات المتحدة رفضت “قبول نعم كجواب”، كما لاحظ محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتم التغاضي عن الحادثة المؤسفة كلها وتعتيمها بهدوء.
وهناك نهج أوسع نطاقاً لمعالجة المشكلة، والذي اقترحه مؤتمر عدم الانحياز الذي انعقد في طهران في آب (أغسطس) الماضي، معيداً تجديد اقتراح قائم منذ وقت طويل بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في المنطقة (وعلى نحو أوسع نطاقاً، فرض حظر على أسلحة الدمار الشامل). ويتمتع هذا الاقتراح، الذي قدمته مصر بقوة على وجه الخصوص، بدعم دولي ساحق لدرجة أن واشنطن اضطرت إلى التعبير عن موافقتها الرسمية عليه. كما يحظى جوهر الاقتراح أيضاً بدعم من كبار المحللين الاستراتيجيين في إسرائيل والولايات المتحدة. وقد دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى “إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط” (في كانون الأول-ديسمبر 2011، ومرّ القرار من دون تصويت”).
نشأت فرصة للتقدم بالبرنامج في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما كان من المقرر عقد مؤتمر دولي للمضي قدماً نحو تنفيذه، في توافق مع قرار مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية للعام 2010. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، وافقت إيران على الحضور. وبعد بضعة أيام قام أوباما بإلغاء المؤتمر. وقالت الدول العربية إنها سوف تذهب على أي حال. وفي كانون الثاني (يناير)، أصدر البرلمان الأوروبي قراراً “يستنكر تأجيل” الاجتماع ويدعو الأطراف الداعية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة) والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى التأكد من أن ينعقد المؤتمر “في أقرب وقت ممكن في العام 2013”. وبعد بضعة أيام، ختم الاتحاد البرلماني الدولي الإسلامي المشترك اجتماعه الذي شاركت فيه 48 دولة إسلامية بقرار اقترحته إيران، والذي طالب بأن يكون الشرق الأوسط خالياً من أسلحة الدمار الشامل، وخاصة الأسلحة النووية.
لكن القضية الجوهرية، بطبيعة الحال، هي أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تكون أسلحة إسرائيل النووية موضع نقاش أو موضوعاً للتفتيش.
وبعد بضعة أيام، ألغى أوباما مؤتمر كانون الأول (ديسمبر)، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو إسرائيل للانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، 174-6. وقد انضمت إسرائيل إلى المصوتين بـ”لا”، المكونين من الولايات المتحدة وكندا، وعدد قليل من الدول التابعة للولايات المتحدة في المحيط الهادئ. ثم ذهبت الولايات المتحدة إلى إجراء اختبار لأسلحة نووية، وحظرت على المفتشين الدوليين مرة أخرى دخول موقع الاختبار.
بعد فترة وجيزة، عقد اجتماع تحت رعاية معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو فرع من اللوبي الإسرائيلي. ووفقاً لتقرير متحمس في الصحافة الإسرائيلية، أكد كل من دنيس روس، وإليوت أبرامز وغيرهما من “كبار المستشارين السابقين لأوباما وبوش” للجمهور أن “الرئيس سيضرب (إيران) في العام المقبل إذا لم تنجح الدبلوماسية”. ولا يستطيع الأميركيون أن يحتجوا على فشل الدبلوماسية والسعي إلى إنهاء أخطر تهديد للسلام في العالم، لسبب بسيط: لم يتم إعلان كلمة واحدة تقريباً عن هذه الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، في مثال آخر على الكيفية التي يمكن بها اختزال حرية التعبير في مجتمع حر جداً، من دون إكراه من الحكومة. ويبدو أن الأمر نفسه ينطبق هنا.
وهناك احتمالات أخرى، وإنما تصعب متابعة أي منها بجدية ما لم نكن مستعدين على الأقل لأخذ مشورة جون سنو العقلانية على محمل الجد. وما لم يتمكن الأقوياء من تعلم احترام كرامة ضحاياهم، فإن الحواجز التي لا يمكن عبورها ستظل قائمة، وسيظل العالم محكوماً بقدر العنف والقسوة، والمعاناة المريرة.
 
*أفرام نعوم تُشُومِسْكِي Avram Noam Chomsky: أستاذ لسانيات وفيلسوف أميركي وعالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. وهو أستاذ لسانيات فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي عمل فيها لأكثر من 50 عاماً. بالإضافة إلى عمله في مجال اللسانيات، كتب تشومسكي عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام وهو مؤلف لأكثر من 100 كتاب. وُصف تشومسكي بالشخصية الثقافية البارزة؛ حيث سُمي “أبرز مثقفي العالم” في استطلاع للرأي في العام 2005.
*ألقيت هذه المحاضرة في الحدث الذي نظمته “قاعات موزاييك” في 18/3/2013، ضمن سلسلة محاضرات إدوارد سعيد السنوية، في بيت الأصدقاء (Friends House) في لندن، وحضرها أكثر من ألف شخص، تحت عنوان: Violence and Dignity: Reflections on the Middle East