Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    23-Sep-2020

جورج برنارد شو وخرافة المثالية

 القدس العربي-زيد خلدون جميل

 
«ما العمل مع الذين لا يمكن حكمهم والضارين وعديمي الضمير والأنانيين وعديمي البصيرة والأغبياء؟ لا تعاقبوهم، بل اقتلوهم». لم تكن هذه الجملة المرعبة من أقوال رجل مجنون، أو من فيلم رعب من أنتاج هوليوود، بل من أشهر كاتب مسرحي في العالم في القرن العشرين، هو البريطاني جورج برنارد شو، الذي يعتبره النقاد أعظم كاتب مسرحي في تاريخ بريطانيا على الإطلاق، بعد شكسبير. وأشهر أعماله «بجماليون» مصدر مسرحية وفيلم «سيدتي الجميلة» و»القديسة جَون»، ترجمت إلى العربية تحت اسم «جان دارك» و»الإنسان والإنسان الجبار» و»قيصر وكليوباترا».
برز برنارد شو في أغلب أنواع الأدب، وهو الكاتب الوحيد في العالم الذي حاز أعظم جوائز الأدب والسينما في العالم، وهما جائزة نوبل للآداب (1925) وجائزة الأوسكار (1939) لأفضل نص سينمائي لفيلم «بجماليون». ولكنه كان أيضا يحاول أن يكون مفكرا وناشطا سياسيا بطريقته الخاصة، وعبّر عن أفكار غريبة، وعديدة عن كيفية تطوير المجتمع. و كان بارعا في جذب الانتباه إليه بأي شكل كان، حتى عن طريق التعبير عن أفكار مثيرة للجدل في مختلف الميادين، وكان هذا أحد أهم أسباب شهرته.
 
من هو جورج برنارد شو
 
ولد برنارد شو في مدينة دبلن (عاصمة جمهورية أيرلندا حاليا) عام 1856 لعائلة متوسطة من أصول بروتستانتية إنكليزية. ولم ينهِ المدرسة الثانوية، ولكنه كان قارئا شرها لكل ما استطاع الحصول عليه من كتب، عمل في عدة وظائف قبل أن ينتقل إلى لندن عام 1876. واستطاع في لندن أن يبرز كناقد أدبي وموسيقي في الصحف المحلية. ولكنه سريعا ما بدأ بالتفكير بضرورة تطوير المجتمع البريطاني بمختلف الوسائل وتأثر بالأفكار الماركسية في ثمانينيات القرن التاسع عشر. بدأ مسيرته الأدبية كاتبا للروايات، ثم أخذ يكتب المسرحيات، حيث كانت أولى مسرحياته الشهيرة «مسرحيات لطيفة وغير لطيفة» (1898). تبعتها عدة مسرحيات شهيرة دعمت مركزه كاتبا كبيرا في بريطانيا والعالم، ما عزز من صعوده إلى قمة الأدب العالمي، كونه برز في بريطانيا وهي في قمة مجدها السياسي والثقافي، حيث كانت الإمبراطورية البريطانية في أعلى مراحلها، وأنتجت الرموز الثقافية الأشهر في العالم مثل برنارد شو (المسرح) و أج جي ويلز (الخيال العلمي) وأدوارد الجار (الموسيقى الكلاسيكية) وجون مَينارد كينز (الاقتصاد). وكان الإعلام البريطاني الأقوى عالميا، فمن يبرز في بريطانيا، يبرز في العالم أجمع.
كان برنارد شو سريعا في اعتناق الأفكار اليسارية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، واعتبر أن المجتمع لا يتطور إلا باتخاذ إجراءات قاسية لتحسينه. ولذلك تأثر بكتابات كارل ماركس، وآمن بضرورة فرض الأفكار الاشتراكية على المجتمع، معتقدا أنها دواء لجميع العلل الاجتماعية. ولكن الأمر لم يقتصر على اليسار بالنسبة له، بل تجاوز ذلك ليدمج معتقداته مع إحدى أوسع الأفكار انتشارا في الأوساط الثقافية الغربية منذ العقد التاسع من القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. وقد ركزت هذه الفكرة على تأسيس مجتمع مثالي بطرق غير إنسانية. وتنص الفكرة على أن الطريقة الوحيدة لتحسين المجتمع هي الإكثار من الأفراد ذوي الصفات المعينة المرغوب فيها داخل المجتمع، عن طريق تزاوج من لديهم هذه الصفات وتشجيعهم على الإنجاب. ومعايير هذه الصفات هي المستوى العلمي والصحي والاقتصادي ودرجة طاعته السياسية. وفي الوقت نفسه تنص النظرية على ضرورة منع الذين لا يملكون الصفات المرغوب فيها على الإنجاب للتقليل من عددهم عن طريق تشجيعهم، أو إجبارهم على الإجهاض، أو التعقيم، أو أي وسيلة أخرى. وأساس الفكرة أن تصرفات الإنسان الشخصية ومستواه الاقتصادي والعلمي وآراءه أشياء متوارثة وغير مكتسبة بعد الولادة، وبذلك يتكون المجتمع المثالي من أشخاص ذوي صفات معينة، من حيث العقيدة والتحصيل العلمي والاقتصادي والاتجاه السياسي، واختفاء كل من هو مختلف عن الآخرين.
وحسب هذه النظرية كذلك، فإن سبب فقر الإنسان، ليس مجتمعه أو حكومته، بل طبيعته التي ورثها من والديه، أي أن السبب جيني، ولا يمكن التخلص من هذه المشكلة، وبالتالي فإنه شخص لا يمكن تحسينه، ويشكل عالة على المتفوقين في مجتمعه. وتنص هذه النظرية مثلا على أن المرأة الحامل التي قد تعتقد أن الطفل سيكون عبئا عليها لسبب ما، يجب أن تتخلص منه عن طريق الإجهاض، لأنها إن أنجبته سوف لن تربيه جيدا، فيتحول إلى إنسان غير ناجح أو فقير أو مجرم، وبالتالي سيكون ضارا بالمجتمع، وحجر عثرة أمام تقدمه. وتطبق النظرية نفسها على أي شخص لا يجده الآخرون مرغوبا فيه بسبب عاهات جسدية، أو أفكار غريبة، أو كون الشخص «غير منتج». ولا يوجد أي أساس علمي، يدعم ادعاء هذه النظرية، فلم تكن علما أصلا، بل مجموعة من الاعتقادات الخاطئة، قدمت بشكل يعطي الانطباع بأنها علم. ولكن الكثيرين من مثقفي بريطانيا آمنوا بها كحقيقة مطلقة في القرن التاسع عشر، حيث كانت تتطور وتنتشر تدريجيا في بريطانيا وبلدان أخرى. وكان الفيلسوف اليوناني أفلاطون، أول من كتب أفكارا مشابهة لهذه النظرية، حيث كتب في كتابه المعروف «الجمهورية» عن ضرورة تأسيس مجتمع متفوق يتكون من أفراد الطبقات العليا، والحد من التزاوج بين أفراد الطبقة الواطئة. واقترح أفلاطون عدة وسائل لتحقيق ذلك الهدف، مثلا ألا يتزوج الرجل سوى المرأة التي يختارها الحاكم، وسمح بزواج الأشقاء. أما أول من كتب عن هذه الفكرة، فكان العالم ورجل الدين البريطاني توماس روبرت مالثس، الذي أقترح عام 1798 عدة طرق للتقليل من عدد الفقراء عن طريق جعل حياتهم أكثر صعوبة. وبالتالي تقل أعدادهم. ولكن العالم البريطاني داروين جعل هذه النظرية تبدو وكأنها علم، حيث تكلم عن البقاء للأقوى، وإمكانية تطبيق هذه الفكرة في المجتمع في كتابه «انحطاط الإنسان» الذي دمج فيه أفكاره مع تلك التي أثارها قريبه السير فرانسيس غولتن عالم الإحصاء الأشهر. وقال غولتن إن اختيار الأبوين سيؤدي إلى إنتاج جيل غير عادي من حيث الجودة.
 
الغريب في الأمر أن كل ما قاله برنارد شو من أفكار عنيفة وغير سوية لم تؤثر في شعبيته بين عشاق المسرح والمثقفين في العالم، بل إنه بالتأكيد سيبقى نجما ساطعا في سماء الثقافة العالمية.
 
لا يمكن الاعتقاد أن الأمر هو مجرد فكرة عابرة، إذ اخترقت أعماق الفكر الأوروبي واتفق مع أفكارها الكثيرون من رموز المجتمع الأوروبي، مثل فيلسوف الشيوعية كارل ماركس الذي قال إن نظريته الماركسية ستكون مستحيلة بدون أفكار داروين. واعتقد الكثيرون من الاشتراكيين البريطانيين أن تطوير المجتمع يتطلب وضع خطط لتحقيق ذلك، ويشمل هذا تخطيط التناسل، فكما تقوم الشركات بتحسين إنتاجها الصناعي، تقوم المجتمعات بتحسين نفسها عن طريق تحسين النسل، وإنتاج أطفال من والدين ذكيين وأصحاء، وغير فقراء. وكانت مثلا الناشطة الاجتماعية البريطانية ماري ستوبس، من أنصار هذه النظرية، حتى أنها صرحت بأن الحشود من ذوي «العيوب» يجب أن يتم تقليلها كي يكون عبئها أقل على الذين بدون عيوب. ولذلك، حرمت ابنها من الميراث لأنه تزوج من فتاة عانت من قصر النظر، حيث قالت إن تلك الزوجة ستنجب على الأغلب طفلا يشكو من المشكلة نفسها، ما يجعله غير مثالي.
تأسست جمعية خاصة للمؤمنين بهذه الفكرة، ضمت مجموعة من مشاهير الطبقة الثقافية، والاجتماعية في تلك الفترة، وكان أحدهم الخبير الاقتصادي الأشهر في بريطانيا جون مَينارد كينز، الذي ترأس تلك الجمعية من 1937 وحتى 1944. وقال كينز إن الطبقة العاملة سكيرة وجاهلة، وإنه يجب تخفيض أعدادها، وإن هذه الفكرة هي الفرع الأكثر أهمية من فروع علم الاجتماع. وامتد تأثير هذه الفكرة الواضح إلى «الجمعية الفابيانية»، التي كانت تؤمن بنشر الاشتراكية الديمقراطية بطرق سلمية وتدريجية، وكان من أعضائها السياسي الهندي جواهرلال نهرو. وأسس أعضاؤها أشهر كلية اقتصاد في بريطانيا، هي مدرسة لندن للاقتصاد London School of economics عام 1895. وقال أحد مشاهير الأساتذة في هذه الكلية هارولد لاسكي، الذي كان رئيس حزب العمال لفترة، إن الوقت سيأتي بالتأكيد عندما يعتبر المجتمع إنتاج الضعفاء جريمة بحقه.
لم يبقَ الأمر في حدود المثقفين والجمعيات، حيث اقترح تقرير برلماني في بريطانيا عام 1934 بالتعقيم للمواطنين غير الصالحين عن طريق التطوع، وقامت بعض أشهر الصحف البريطانية بتأييده. واقترح وليام بيفيردج، حرمان الذين يعانون من عيوب عامة من حق الانتخاب والحريات المدنية، وحتى الأبوة، وهو الذي أسس نظام الضمان الاجتماعي في بريطانيا.
برنارد شو وتطبيق أفكاره
آمن برنارد شو قبل الحرب العالمية الأولى بفكرة تغيير المجتمع تدريجيا وبشكل سلس، وانضم إلى «الجمعية الفابيانية»، ولكن اتجاهه أخذ يتغير أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث أخذت أفكاره تتميز بالقسوة والتغيير الفوري العنيف، حيث قال في إحدى المرات، إن الاشتراكية الممكنة والأساسية الوحيدة تشمل زيادة عدد الذين تم اختيارهم. وأيد تبوؤ ستالين قمة السلطة في الاتحاد السوفييتي، كما دعم حملات التطهير الجماعي، التي قام بها. وتكلم كذلك عن معسكرات الاعتقال التي أسسها ستالين، مختلقا مختلف التعليلات الواهية لتبريرها، حتى أنه قال إن المعتقلين فيها يستطيعون مغادرتها متى يشاؤون. وقام بزيارة ستالين في الاتحاد السوفييتي عام 1931 واصفا أياه بالشخص المسالم.
الغريب في الأمر أن كل ما قاله برنارد شو من أفكار عنيفة وغير سوية لم تؤثر في شعبيته بين عشاق المسرح والمثقفين في العالم، بل إنه بالتأكيد سيبقى نجما ساطعا في سماء الثقافة العالمية.
 
٭ باحث ومؤرخ من العراق