الدستور-د. نعمان ثابت- العراق
تستكمل رواية (الإسكندرية 2050) المسيرة في بناء مكان يوتوبي على أنقاض المدينة الديستوبية، ولعلَّ ما حوته هذه الرواية من مقومات اليوتوبيا يكاد يكون نوعاً ما أكثر مما حوته سابقتها لسببٍ واحدٍ، وهو أنَّ (الإسكندرية 2050) رواية مستقبلية، فزمن أحداثها في العام 2050م، فضلاً عن أنها تعد من روايات الخيال العلمي التي وظف فيه (فحماوي) التقنية والتكنولوجيا في خدمة البشرية والطبيعة، واقترحَ حلولاً لمشكلات البيئة من خلال التطور العلمي الذي شهده العالم. يظن القارئ في بادئ الأمر أنَّ الرواية، رواية يوتوبيا بيئية، إلا أنها في الحقيقة تتضمن رؤية ديستوبية لما آل إليه العالم من تطور وتقدم في مجال التقنية والتكنولوجية، وهيمنة المادة على الإنسان.
يعرض لنا الراوي العليم (المهندس مشهور) الأحداث بتقنية الاسترجاع، فيتذكر ماضيه وهو في مخيمات اللاجئين ثم رحلته الدراسية إلى الإسكندرية، فيتنقل بنا بين الحاضر والماضي فيعقد مقارنة بين حاضر الإسكندرية في 2050 وماضيها أيام ستينيات القرن الماضي، إذ يُشير الكاتب إلى العديد من المشكلات البيئية في روايته التي أدت إلى تغيرات مناخية وجغرافية بسبب ازدياد السكان وقلة المياه العذبة، فيصور لنا الراوي مشاهدته للإسكندرية في عام 2050م، فيقول: «ها هي شواطئ المعمورة، وقصر المنتزه، تظهر على شاشتك، مشبوكة مع مدينة الإسكندرية في معمار واحد. وقد كانت أيام صباك متباعدة، تفصل بينها أرضٌ زراعية. وعلى الجهة الأخرى بحيرة مريوط، ومنطقة الملاحات، التي كانت رياحها تذرُّ الملح في العيون، فتبدو على شاشتك، وكأن شيئاً لم يكن! قالوا إنهم جففوها، وها أنت تراها مزروعة بالمشاريع المعمارية... وعلى البعد ترى مساحات واسعة شاسعة من تشوهات سكنية، لبيوت صفيحية صدئة، متراصة مترامية، في نهايات البحيرة، يبدو أنها لبقايا الفلاحين والعمال المتآكلين المعجونين بنفيات مدينة العولمة، والذين لفظتهم وأقصتهم حرية رأس المال، وطردتهم إلى صحاري موحشة بعيدة»([1]).
يحدد الراوي المشارك المشاكل البيئية التي تعرضت لها مدينة الإسكندرية وأهمها: اختفاء الأراضي الزراعية التي تعد السلة الغذائية للمدينة وهذا ما أشار اليه الراوي «يبيعون أهل المدينة حليبها وعسلها وأجبانها وزبدها»([2])، وكذلك «كانوا هنا يزرعون الحبوب والبقول، والقطن الطويل التيلة، وأشجار الحمضيات والجوافة والمانجا»([3])، فهي العصب الاقتصادي للمدينة والرئة التي تتنفس منها، فالتزايد السكاني وهيمنة الرأسمالية ساعدتا في زوال الأراضي الخضراء، فضلاً عن تجفيف (بحيرة مريوط) واستغلالها للمشاريع التجارية، فالمشاريع العمرانية الكبيرة المقامة دونما مراعاة القضايا البيئية(*) هدفها الأول تحقيق مصالح اقتصادية لفئة معينة، وهذا عماد الفكر الرأسمالي.
كما أشار الراوي المشارك إلى مشكلة بيئية مهمة ألا وهي السكن العشوائي نتيجة الفقر والتهميش وتغوّل رأس المال، ربما تُشير العشوائيات إلى بيوت الطبقات الفقيرة (الفلاحين)، بعد أن جُرفت أراضيهم الزراعية ولم يبقَ لهم عمل غير البطالة، إذ تفضح هذه العشوائيات إيديولوجيا الطبقة المهيمنة التي غالباً ما تبرر الوضع القائم بمبررات منمقة تجعل الإنسان يعيش في حالة تبعية للآخر بفعل الاستلاب الرأسمالي، فيضيف الراوي (المهندس مشهور) قائلاً: «كان شراء شركة (يون تشو الصينية) أرض المطار وما حولها، في شمالي محافظة البحيرة وإنشاؤه على مساحة مئة كيلومتر مربع، كانت تغمرها ملاحات بحيرة مريوط، يعتبر ضربة معلّم! اشترى الصينيون المنطقة بكاملها، وجففوها، فاختفت بقايا البحيرة الملحية الشاحبة الخضرة، وحل محلها مطار دولي فسيح. وحسب معلومات الإنترنيت كانت صفقة تجارية صينية رائعة»([4]).
يشكل هذا _من وجهة نظر ماركسية_ أحد العواقب الوخيمة للنظام الرأسمالي الذي تُكدس فيه الأموال لدى فئات دون أخرى. لقد قدمت الماركسية فضلاً عن نقودها للاستلاب الديني نقداً لاستلاب آخر. هذا الاستلاب هو استلاب «محمولات العمل المستلب بإزاء رأس المال، مثلاً، تكاد تتطابق مع محمولات الانسان المستلب بإزاء المقدس»([5])، أي في كلا الحالتين يُجبر الإنسان على الخضوع لمن يمتلك رأس المال من الجهات الخارجية، وإلى هذا أشارت الرواية بـ(اشترى الصينيون المنطقة بكاملها وجففوها)، في النص أعلاه نقد واضح للرأسمالية التي شاعت في مدن العولمة، فنشأت على إثر ذلك مدن ذات طابع ديستوبي مظلم بحق الإنسان والبيئة، إذ تعرض المزارعون للظلم البيئيّ كالاستيلاء على الأراضي، وممارسات العمل الاستغلاليَّة، والتَّهميش العرقي، معبراً عن دلالات نسقية استغلالية بيئية صور من خلالها الكاتب الطبيعة في ظل التطور التكنولوجي.
ومن المشاهد الديستوبية البيئية التي حلت على العالم في (2050)، الاحتباس الحراري، فنتيجة ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى ارتفاع منسوب مياه البحر، واختفاء بعض المناطق السياحية، ويتجلى ذلك من خلال الحوار الذي دار بين الراوي و(المرأة الآلية)، فتقول: «كانت هنا بحيرة اسمها مريوط. ولكنهم جففوها، وبنوا مكانها مشاريع مختلفة. ولكن كما ترى فالمياه عادت تتدفق من جديد، نظراً لارتفاع منسوب البحر، ولو تدقق، فسوف تجد أنَّ محافظة البحيرة مهددة بأن تغمرها مياه البحر، بسبب الحرارة المتزايدة. لقد تطاول البحر علينا، وامتد ليغطي مساحات شاسعة من الشواطئ، والمناطق السياحية ... ونحن الآن نتدارس حلولاً لهذه التحديات البيئية»([6]).
يُعد هذا النص مؤشراً على اختلال التوازن البيئي نتيجة للأنشطة البشرية ولتسلط الإنسان على الطبيعة، فعندما لا يُنظر إلى الطبيعة إلا من الزاوية التي تحقق المصلحة الذاتية فقط، فإنَّ هذا يعني عدم مراعاة أيّ قيمة سوى القيمة النفعية، فلا تُراعى البيئة ولا أخلاقياتها. إنَّ الشكل الديستوبي للرواية هو مثالي بالنسبة للكشف عن التدمير البيئي والبشري الذي لم يعد خيالاً علمياً، بل أصبح واقعاً معاشاً نتيجة الانتهاك الإنساني المطرد للأنظمة البيئية.
وتنهال الكوارث الطبيعية فترسم مشاهد ديستوبية، وسيناريوهات مرعبة بحيث يشعر القارئ أنه موصل فعلاً بالمكان ومرتبط بأحداثهِ، ومن هذه المشاهد ما يذكره (المهندس مشهور) وهو يحاور ابنه (برهان)، «مكتبنا الهندسي الآن متورط في تصميم شواطئ واجهة دبي البحرية، فبعد هذا الاحتباس الحراري، وما نتج عنه من ارتفاع منسوب مياه البحر، والذي أغرق آلاف الجزر المنخفضة في أندونيسيا والفلبين والكاريبي، وغمر الدلتا _جنة مصر الخضراء، وسلة غذائها_ كما غرقت واختفت بعض الجزر الإماراتية المنخفضة، صار الخطر يتهدد السواحل كلها، وصارت إعصارات تسونامي الخليجية شغلنا الشاغل!»([7]). بنبرة متشائمة تعالج الرواية موضوع التغير المناخي في إطار ما يمكن عده نوعاً أدبياً جديداً هو (الخيال المناخي)، أو (الديستوبية المناخية) يقتصر موضوعه على الاحتباس الحراري وتداعياته في المستقبل القريب، إذ تناولت الرواية بصورة مستمرة الصراع بين الإنسان والطبيعة، في زمن تفاقمت فيه الأزمة البيئية، فالكاتب (صبحي فحماوي) يحذر البشرية من الاستغلال الصارخ للبيئة، ففي زمن الكوارث الطبيعية يظهر الحديث عن ضرورة احترام وخضوع الإنسان للطبيعة بشكل متكرر، وأنه يعيش بجانب نظام طبيعي داخله كائنات حية تشاركه هذا العالم وربما تسكنه من قبله، وإنَّ تلك الكوارث البيئية ما هي إلا تعبير واضح ورد فعل من الطبيعة عما يقترفه الجنس البشرى من آثام وجرائم ضدها، أو يمكن أن نسميه ثورة الطبيعة ضد ما تتعرض له من ظلم الإنسان من أجل إعادة التوازن للعالم أو انتقام وعقاب من الطبيعة للإنسان لانتهاكه لها.
***
[1])) صبحي فحماوي: الإسكندرية 2050، دار الفارابي، 2009م: 7.
[2])) نفسه: 42.
[3])) نفسه:42.
(*) في (Ideology as Dystopia) حدد (دوغلاس ويليامز) العديد من الصفات الديستوبية التي شكلت الرؤية الكابوسية لكتاب الروايات والقصص الخيالية وذكر منها التلوث البيئي والاكتظاظ السكاني وهيمنة رأس المال. نفس هذه الصفات وظفها الكاتب لوسم الواقع البيئي في روايته.
See: Ideology as Dystopia، An Interetation of Blade Runner: Douglas E.Williams، International Political Science Association، Vo.4، Sage Publications، Ltd، 1988، 384.
[4])) الإسكندرية 2050: 34.
[5])) مجموعة مؤلفين: الاستلاب، تر: فالح عبد الجبار، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2018م: 154.
[6])) الإسكندرية 2050: 40.
[7])) نفسه: 54.