الراي - آيات بكر -
في لحظة تاريخية فاصلة، وقف جلالة الملك عبد الله الثاني أمس أمام البرلمان الأوروبي، لم يكن خطابه مجرد إلقاء دبلوماسي، بل كان مرافعة أخلاقية جريئة تُحاكم العالم أمام مرآة غزة الملطخة بالدماء. لقد تجاوزت كلماته حدود السياسة، لترسم وثيقة ضمير حيّ تُعلن أن الصمت لم يعد خيارًا.
جاءت افتتاحية جلالته كالصاعقة: «عالمنا قد فقد بوصلته الأخلاقية»، ليكشف بوضوح أن العجز عن حماية المدنيين في غزة ليس حيادًا، بل هو انحياز قاتل للظلم. ومضى جلالته يحذّر بأن «الفشل في التحرك هو إعادة تعريف لما يعنيه أن نكون بشرًا»، واضعًا البرلمان الأوروبي أمام مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية قبل السياسية.
لقد توغل الخطاب الملكي في عمق معادلة السلام والعدالة، مؤكدًا أن استقرار الشرق الأوسط مرهون بحلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية، وأن القدس، التي وصفها بأنها «قلب السلام»، لا تقبل المساومة أو التهميش، فإقصاؤها إقصاء للسلام نفسه. دعوة الملك لأوروبا لم تكن استنجادًا، بل شراكة مسؤولة تستند إلى الاحترام المتبادل، وإلى فهمٍ راسخ بأن التطرف لا يُهزم بالقوة وحدها، بل يُحاصر بالفرص والعدالة. خطاب حمل في طياته جوهر السياسة النبيلة التي تتطهر من الحسابات الضيقة، وتستعيد دورها في حماية الإنسان لا تبرير مأساته. في ذلك المنبر ?لأوروبي، لم يكن الملك صوت دولة، بل ضمير أمة، وممثلًا لحقيقة تسعى للخروج من الركام، وحين تحدّث، لم يكن العالم يستمع فحسب، بل كان يُحاسَب.
السياسيون يقرأون الدلالات
من جهته قال وزير الإعلام السابق د.مهند المبيضين، في حديثه لـ $ إن خطاب جلالة الملك في البرلمان الأوروبي شكّل محطة نوعية غير مسبوقة في تاريخ القمم الأوروبية واللقاءات الدولية.
وأوضح المبيضين أن جلالته نقل أزمات الإقليم من مربع التجاهل والصمت إلى دائرة المسؤولية الدولية، واضعًا العالم أمام امتحان أخلاقي حقيقي تجاه ما يحدث في غزة والمنطقة بأكملها.
وأكد أن جلالته شدّد على ضرورة أن تنظر منابر العالم إلى القضايا الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، من زاوية أخلاقية أولًا، لا أن تبقى رهينة المصالح والعلاقات فقط. ولفت إلى أن الخطاب الملكي توقف عند سؤال عميق: إلى أين يتجه «العالم الأعلى»؟ وهو سؤال يحمل دعوة ضمنية للمراجعة، ويحمّل المجتمع الدولي مسؤولية وقف الانزلاق إلى مزيد من العنف، داعيًا إلى استعادة المرجعية الأخلاقية في المواقف والأفعال.
وشدد المبيضين على أن أهمية الخطاب الملكي تكمن في موقع جلالة الملك الجيوسياسي، وفي رسالته التاريخية التي دأب على تقديمها منذ 25 عامًا، بأن المنطقة ليست فقط ضحية صراعات، بل ضحية تطرف وسياسات إسرائيلية لا تقود إلا إلى مزيد من التوتر.
وبين أن موقع الأردن السياسي والإنساني ونهجه الأخلاقي جعله صوتًا فاعلًا في المحافل الدولية، حريصًا على إبقاء قضايا الإقليم حاضرة على الأجندة العالمية.
وأشار المبيضين إلى أن الملك حرص على وضع أوروبا أمام مسؤوليتها الأخلاقية تجاه ما يجري في غزة، مؤكدًا الانسجام بين المواقف الأردنية والسياسة الأوروبية. وذكر أن جلالته ركّز منذ أحداث السابع من أكتوبر على مخاطبة الضمير الأوروبي في ظل التفرّد الأمريكي، مؤكدًا أن أوروبا تمتلك القدرة والرؤية الأكثر عقلانية.
وختم المبيضين حديثه بالقول إن جلالة الملك لا يسعى لحماية الأردن فحسب، بل يقاتل بالكلمة والموقف لمنع المنطقة بأسرها من الانهيار، وإنقاذ خيار السلام.
بوصلة القانون والإنسانية
وفي السياق نفسه، أكد وزير الإعلام الأسبق فيصل الشبول، أن كلمة جلالة الملك أمام البرلمان الأوروبي حملت رسالة إنسانية وقانونية وأخلاقية، ذكّرت العالم، وتحديدًا أوروبا، بالأسس التي نشأت عليها المنظومة الدولية ما بعد الكوارث الكبرى (الحربين العالميتين)، والتي دفعت إلى إنشاء الأمم المتحدة كنواة للسلام والعدل الدوليين.
وأوضح الشبول أن جلالته خاطب الأوروبيين بدعوة صريحة للعودة إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني، واستبدال السلام والتسامح بالحروب.
ووصف جلالته بأنه كان «صوت العقل، والحكمة، والاعتدال» في محفل دولي يُدرك مكانة الأردن وقيادته، ويثق بكلماته ومواقفه المتزنة. وفيما يتصل بالقضية الفلسطينية، أضاء جلالته على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، التي تحوّل فيها القتل وانتهاك الحقوق إلى مشهد يومي. وأن جلالته أشار إلى التوسع الاستيطاني في الضفة والاعتداءات المتكررة، مبرزًا كيف تحاول إسرائيل، من طرف واحد، إنهاء القضية الفلسطينية بصمت دولي مقلق، وأكد جلالته أن هذه الانتهاكات ليست غائبة عن السمع والبصر.
ولفت الشبول إلى أن اتصالات جلالته السابقة بالقادة الأوروبيين أسهمت في تحوّلات ملموسة في مواقف عدد من دول أوروبا تجاه القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى خطوات متقدمة كاعتراف خمس دول أوروبية بالدولة الفلسطينية. وشدد الشبول على أن التنسيق بين جلالة الملك والرئيس الفرنسي شكّل محورًا مهمًا لدفع المواقف الأوروبية نحو الاعتراف بالحق الفلسطيني.
وأفاد الشبول أن تأثير الخطاب الأردني يتعاظم في البرلمان الأوروبي والرأي العام الأوروبي، الذي بات أكثر إدراكًا لخطورة السياسات الإسرائيلية المتطرفة، وأن أوروبا تواصل تقدمها باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خوفًا من أن يؤدي استمرار النهج الإسرائيلي إلى دفن القضية.
وأشار أن الملك في جانب آخر من الخطاب، نبّه إلى خطر انفلات الأمن في المنطقة، موضحا أن التجارب السابقة أثبتت أن أوروبا نفسها تتضرر من ذلك.
ونوه الشبول إلى أن المنطقة تقف على حافة انفلات أمني شامل، وأن الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، التي بادرت بالعدوان على إيران، تدفع المنطقة إلى الغرق في الفوضى. و أكد أن هذا التصعيد الإسرائيلي تجاه إيران لا يُفهم بمعزل عن الطموحات الاستراتيجية لحكومة اليمين المتطرف بمنع طهران من امتلاك قدرات نووية.
وبين الشبول أن لهذه التوترات على الأردن تأثيرا، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، مشيرًا إلى موجة إلغاء البرامج السياحية. وختم بالقول إن خطاب جلالة الملك يمثل صوتًا عاقلًا في زمن مضطرب، يحذر من الانزلاق إلى الفوضى، ويدعو إلى التمسك بالقيم والشراكة الحقيقية من أجل السلام.
تشخيص دقيق ورؤية ثاقبة
عقّب العين د.محمد الوحش، في تحليله، على خطاب جلالة الملك، مؤكدًا أنه تميّز بالقوة في الطرح وعمق الحجة، ليؤكد مكانته كقائد يمتلك رؤية واضحة واستشرافًا دقيقًا لتحديات المنطقة والعالم.
وأوضح أن الملك قدّم تشخيصًا دقيقًا وواقعيًا للأوضاع، لا سيما ما يعانيه الشعب الفلسطيني من مآسٍ جراء آلة الحرب الإسرائيلية. و أن جلالته جدد التأكيد على أن القضية الفلسطينية ستظل في صدارة المشهد، واضعًا الجميع أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية، داعيًا إلى تحرك فوري يتناسب مع خطورة اللحظة المفصلية.
وأشار الوحش إلى أن الخطاب الملكي كان بمثابة مرافعة قانونية وسياسية شاملة، تطالب بتحمّل المجتمع الدولي لمسؤولياته، وضرورة العودة إلى الشرعية الدولية والابتعاد عن دوامة العنف في ظل المجازر والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون. ووصف الوحش الخطاب بأنه «خارطة طريق متزنة»، تحمل حلولًا منطقية ورؤية ثاقبة، ما يفسر حجم الإنصات الكبير الذي يحظى به جلالته في المحافل الدولية. كما ذكر أن الترحيب الحار والتصفيق الذي قابله به الحضور في البرلمان الأوروبي، كان تأكيدًا على القناعة العميقة برؤية جلالة الملك. ودعا الوحش جميع ا?أطراف الفاعلة إلى ضرورة التحرك وتحمل المسؤولية لإطفاء شرارات الأزمات والدفع نحو مسارات أكثر أمنًا وعدلًا.
وأكد أن الأردن، بقيادة جلالة الملك، يُظهر موقفًا ثابتًا وراسخًا تجاه القضية الفلسطينية، دعمًا لحق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة استنادًا إلى المرجعيات الدولية. وبرز الموقف الأردني جليًا في دعمه لوقف الحرب والإبادة الجماعية في غزة، وفك الحصار، وتسهيل إدخال المساعدات، والضغط على المجتمع الدولي. وبيّن أن جلالة الملك يشكل عنوانًا لهذا الموقف، ونموذجًا للدعم العملي، من خلال الجهود المستمرة في تقديم الإغاثة، وهو ما لاقى تقديرًا عالميًا لوضوح رؤيته وجرأة طرحه وإنسانية موقفه.
ومع ذلك، لفت الوحش إلى أن الاستجابة الغربية ما تزال محدودة بسبب ارتباطاتها السياسية مع إسرائيل والولايات المتحدة. وأشار إلى أن الصوت الأردني، الرسمي والشعبي، يمثل موقفًا متوازنًا يعبّر عن ضمير الأمة وتطلعات شعوبها إلى العدالة والسلام.
ونبّه إلى أن استمرار الحروب في المنطقة يشكل تهديدًا مباشرًا لمشاريع التنمية، ويقوّض آمال الشعوب في الاستقرار، محولًا مستقبل المنطقة إلى مشهد قاتم. وأكد أن الإنسان العربي يعيش قلقًا دائمًا، وأن رأس المال لا يمكن أن يستثمر في منطقة تقف على شفا بركان. وختم الوحش بالإشارة إلى أن الأردن ما يزال بمنأى عن الخطر المباشر بفضل الحكمة في الإدارة، لكن القلق الشعبي موجود في ظل التصعيد الإسرائيلي الذي لا يسعى إلى تسوية بل إلى فرض سيطرة مدمرة، وهو ما يهدد بانفجار أوسع قد يحرق الأخضر واليابس.
رسالة ثقة عميقة من أوروبا
من جانبه، أوضح النائب الأسبق حمادة الفراعنة، أن خطاب جلالة الملك أمام البرلمان الأوروبي يُعد السادس لجلالته منذ عام 2002، وهي سابقة غير متكررة لأي من القادة العرب أو العالميين خلال الربع قرن الأخير.
وأكد الفراعنة أن هذا التكرار يعكس عمق الاحترام الذي يحظى به جلالته ومكانة الأردن لدى صناع القرار الأوروبيين. وبين أن ثلاثة فقط من الزعماء العرب، غير جلالة الملك، قد خاطبوا البرلمان الأوروبي، وهم جلالة الملك محمد السادس، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ما يؤكد الثقة العميقة والاستثنائية الممنوحة لجلالة الملك.
واستعرض مضامين خطاب جلالة الملك، التي انطلقت من التأكيد على القيم الإنسانية والدينية المشتركة التي تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود، وسلط الضوء على الأردن كموطن تاريخي للمسيحية، حيث يقع المغطس، موقع عماد السيد المسيح، وهو ما يمثل بعدًا روحيًا وإنسانيًا خاصًا بالأردنيين.
وأكد الفراعنة أن المواطنة في الأردن تقوم على مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، مشيراً إلى أهمية العهدة العمرية بوصفها أحد الأسس التي انبثقت منها الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، كمسؤولية تاريخية تتجسد في حماية هذه المقدسات وصونها. وبيّن أن هذا الطرح الأردني الموجه للأوروبيين جاء لتعميق فهمهم لدور الأردن الديني والتاريخي، ولمكانة التعايش والتسامح المتجذرة في المجتمع الأردني.
وتطرق إلى الأوضاع في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، فيما يتعلق بالسلوك الإسرائيلي الذي يخالف جميع القيم الإنسانية والقوانين الدولية.
وشدد الفراعنة على أن ما يتعرض له المدنيون في غزة، من نساء وأطفال، إلى جانب الاعتداءات على المؤسسات الصحية والتعليمية، يمثل خرقاً صارخاً لكل المبادئ التي تجمع العرب والأوروبيين. كما أشار الفراعنة إلى تناول جلالته للتجربة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، مذكرا أن أوروبا تحولت من ساحة حروب إلى نموذج عالمي في البناء والشراكة والسلام، ودعا إلى أن تكون تلك التجربة مصدر إلهام للتعاون العربي الأوروبي، خصوصاً في ظل تصاعد الصراعات في أماكن عدة مثل أوكرانيا وفلسطين. وأن جلالة الملك شدد على ضرورة العمل المشترك من?أجل تمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه، كأي شعب آخر في العالم، بما يشمل الحرية والاستقلال والكرامة، مشيراً إلى أن الاحتلال يجب أن ينتهي، وأن العدالة يجب أن تسود لضمان مستقبل آمن للمنطقة.
وسلط الفراعنة الضوء على الإخفاقات الإسرائيلية في غزة، رغم ما حققته من دمار واسع.
وأوضح أن حكومة نتنياهو فشلت في تحقيق هدفين استراتيجيين: الأول، تحرير الأسرى الإسرائيليين دون عملية تبادل، والثاني، القضاء على المقاومة الفلسطينية.
وأشار أن هذه الإخفاقات أدّت إلى ضغوط متصاعدة على نتنياهو من عدة جهات، أبرزها عائلات الأسرى الإسرائيليين، والمؤسسة العسكرية التي لم تعد ترى هدفاً استراتيجياً قابلاً للتحقيق في غزة، بالإضافة إلى الإحراج الدولي المتزايد بسبب الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، ما أثار انتقادات أوروبية وأمريكية واضحة.
ولفت إلى أنه نتيجة لهذه الضغوط، اتجه نتنياهو نحو تصعيد جديد باستهداف إيران، في محاولة مكشوفة لتحويل بوصلة الحرب من غزة إلى طهران، دون إعلان رسمي بوقف العدوان على القطاع، خشية من تداعيات سياسية داخلية قد تؤدي إلى محاكمته.
وأكد الفراعنة أن هذا التصعيد الإسرائيلي تجاه إيران لا يُفهم بمعزل عن الطموحات الاستراتيجية لحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، والتي تسعى إلى منع طهران من امتلاك قدرات نووية، حتى وإن اقتضى ذلك الاعتداء على سيادة الدول.
وفي سياق متصل، بين الفراعنة أن الخطاب الملكي لم يغفل أثر هذه التوترات على الأردن، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وأوضح أن المملكة، التي كانت تستعد لصيف سياحي واعد، تواجه اليوم موجة إلغاء للبرامج السياحية نتيجة التوتر الإقليمي. وبالرغم من عدم سقوط ضحايا أردنيين، إلا أن التصعيد الإسرائيلي الإيراني أسفر عن إصابات لأردنيين وتضرر ممتلكات مدنية داخل المملكة.
وذكر الفراعنة أنه ومع أن الأردن يختلف مع إيران في عدد من الملفات، إلا أنه لا يقبل بأي حال من الأحوال الاعتداء على سيادتها، خاصة أن ما تفعله إسرائيل في فلسطين ولبنان وسوريا يثير القلق بشأن الأمن القومي الأردني والمنطقة بأسرها. وخلص الفراعنة إلى أن خطاب جلالة الملك يمثل صوتاً عاقلاً في زمن مضطرب، صوتاً يحذر من انزلاق المنطقة إلى الفوضى، ويدعو إلى التمسك بالقيم، وإلى شراكة حقيقية بين العرب وأوروبا من أجل السلام. إنه صوت يحمل رسالة إنسانية جامعة، تنطلق من التجربة الأردنية في التسامح، وتدعو العالم إلى إعلاء صوت?القانون على منطق القوة.
بوصلة الأردن في محيط مضطرب
في خضم هذا المشهد الكوني، حيث تتلاطم أمواج السياسة وتتآكل قيم الأخلاق، يبرز صوت عمان، صوت الأردن، بقيادة ملكه، ليس مجرد صدى لموقف سياسي عابر، بل نداءً أخلاقيًا عميقًا يُرسل إشاراته إلى قلب التاريخ. إنه صوتٌ يدرك أن الشرق الأوسط، هذه الأرض التي شهدت ميلاد الحضارات وموت الإمبراطوريات، لا يمكن أن يُترك رهينة لحسابات اللحظة أو لجبروت القوة العارية.
فالخطاب الملكي لم يكن ترفًا سياسيًا أو محاولة لكسب ودّ. كان ضرورة وجودية في زمنٍ باتت فيه حقيقة الإنسان على المحك. لقد وضع جلالته العالم أمام مرآةٍ صادقةٍ، لا ليعكس وجه العجز، بل ليرسم معالم طريق العودة إلى جوهر الإنسانية طريق العدل، والقانون، والمبادئ التي عليها تقوم الأمم. إنها دعوةٌ لكي تستعيد السياسة هيبتها، لا كأداة قمع أو مصالح، بل كفعل نبيل يهدف إلى حماية كرامة الإنسان وصون وجوده.
إن ما قاله جلالة الملك عبد الله الثاني أمس ليس كلمات تُقال في مناسبة عابرة، بل هي علامة فارقة في سجل الدبلوماسية الأخلاقية، شهادةٌ على أن الأردن، برغم صغر حجمه الجغرافي، يمتلك ثقلًا قيميًا ووجوديًا قادرًا على إضاءة الدروب في أحلك الظلمات. إنها رسالة أن «البوصلة الأخلاقية»، وإن فقدها البعض، لا تزال تعمل في الأردن، توجه دفة سفينة الأمل في بحرٍ متلاطمٍ من الفوضى، وتُذكر العالم بأن التاريخ لا يرحم الذين يقفون صامتين أمام محو الإنسانية.