عمون -
"ينظر إلى الاشخاص والأماكن والمواقف.. يفكفكها ثم يعيد تركيبها ويقدمها لنا".. هكذا قدمت الإعلامية نسرين ابوصالحة زوجها الوزير الاسبق الدكتور صبري الربيحات خلال اشهار مذكراته في كتاب اسماه "وكأني لا زلت هناك".. صبري النشمي صاحب صاحبه المحب لوطنه.. صبري الموسوعة، قالت ابو صالحة..
وزادت في وصفها بأنه الموسوعة ليس لأنه يعرف كل شيء بل لأنه يجعلنا نعرف الاشياء من منظوره لها ورؤيته الثاقبة..
في دارة تل القمر الواقعة بالعالوك التي احبها الربيحات، أقام أمس ليلة أردنية مطلة على البدر، قدم فيها الرشوف واللزاقيات بالسمن البلدي لضيوفه، لتؤكد ما جاء في كتاب سيرته الذاتية أنه ما زال هناك في عيمة الطفيلة مسقط رأسه، حتى وإن امضى سنوات من حياته في عمّان والولايات المتحدة الأمريكية ثم تنقل بين كراسي الدوار الرابع، واستقر في قرية جرشية زرقاوية قريبة من العاصمة..
سيرة صبري التي قدمها زميله في الدراسة والوزارة الوزير الأسبق الدكتور عاطف عضيبات ومدير عام مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأسبق جرير مرقة، تناولت عقوده الستة بدءا من قرية عيمة على سفوح الطفيلة، وتصور المشهد للقارئ وكأنه يعيش هناك في ستينيات القرن الماضي.. وتروي التفاصيل الدقيقة كيف تصنع المعاناة رجال دولة اوفياء..
وفي الأمسية دعا مدير عام مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأسبق مرقة، الحضور إلى إطلالة من على تلة القمر تريهم ظل رجل قطع المسافة بين الأمكنة والأزمنة وكأنه ما زال هناك، حيث تشرق الشمس على حقول عيمة ليصير البيدر بحجم حلم كبير ويضيء القمر على مواويل الحصادين والحالمين بمواسم الخير، يبشر بها آذان الفجر (الصلاة خير من النوم).
وتساءل مرقة: "من قال إن العيون الأردنية تنام على ضيم، أو تغفل عن أمل يزهر في قلوب أجيال تشابهت حياتهم وإن اختلفت الأمنكة والأزمنة التي خبرها الدكتور صبري اربيحات، والذي يجمعنا في هذا البهاء كي نعرف معنى الدفء، وقد أكون أنا قد شعرت بهذا الدفء قبل المجيء إلى هنا حين اقتربت من أجواء فروة والده التي جاء بها من الخليل ، فعبر خط العرض الواصل بين جنوب وجنوب وجدت نفسي أرجع إلى زمن طفولة تشبه طفولته حين كان الفقر نبيلا ، وحين كان الآباء أشبه بالجنود يخوضون المعركة وهم واثقون بالنصر ، وكانت الأمهات الصابرات أصلب من الصخر ، وأرق من خيط حرير ، كن رائعات وهن يثبتن أزرار معاطف العسكر ليكون المشهد لائقا عندما يهطل المطر وتسيل الأودية والشعاب".
وأضاف، "يقال إن المكان ينطق إلى درجة أنه قد يقول لك إذهب من هنا ، يقولها محبة حين يستشعر بشر قريب أو خير بعيد ، ولكن أن تبقى هناك حاضرا أو غائبا فتلك هي عبقرية التراب التي تأسر الإنسان ، التراب لا يغادر أبدا ، رائحة التراب حين يكون مجبولا بالطهر والمجد وبدماء صحابة نبي ، وحواريي رسول هو أشبه برائحة المسك والعود والعمبر".
وقال إن ثلاثية المكان والإنسان والحياة التي استحضرها الدكتور صبري ليروي لنا حكاية عيمة، أو حكايته معها تبدو راسخة في جميع مراحل حياته وهو ينتقل بين المدائن ليستقر في عمان، ومنها إلى بلاد بعيدة طلبا للعلم وبلاد قريبة طلبا للرزق، ولم أجد له خطا بيانيا يظهر استعلاء في المناصب ولا هبوطا بدونها، فقد ظل مقيما في عيمة يعرف طقسها ومواسمها، ويعرف أنها أشبه ببذرة زيتون صيغت على شكل حبة في مسبحة حركتها الآيادي مشفوعة بالدعاء الطيب الطالع من قلوب الطيبين من أهل الربوع الأردنية المباركة.
اما عضيبات فاشار إلى أن الكتاب يمثل سيرة ذاتية ممتدة على مدى سبعة عقود، تتضمن الوصف والتوثيق وأحياناً التأمل والتحليل لمئات المواقف والأحداث والأماكن والأشخاص.
وأكد أن هذه السيرة لا تقتصر على شخص الدكتور الربيحات فقط، بل تمثل جيلاً بأكمله وأبناء أمة، رغم اختلاف البيئات وتبدل الأشخاص وتغير الأزمان.
وحضر الأمسية حشد كبير من الشخصيات الوطنية والثقافية ضم رؤساء حكومات سابقين ووزراء وإعلاميين ومثقفين وكتّاب وأكاديميين وفنانين وشخصيات وطنية.
وجاء كتاب "وكأني لا زلت هناك" في خمسمئة وست وخمسين صفحة، بين ألم وأمل، وإخفاق ونجاح، وغياب واياب، فيه من الإلماحات الذكية وما خلف السطور ما يجعل القارئ يتوقف عند بعض مظاهر السخرية العميقة ليجد فيها فلسفة يعاقب بها الدكتور صبري كآبة الحياة تارة، ويرسم بعض صورها بالكريكاتير تارة أخرى، لكنه قد أمسك حقا بخيط التجربة قبل أن تتلاشى في الزحام، وفق ما وصفه مرقة.