Wednesday 8th of May 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Jan-2020

«جنوبي» للرواشدة.. تحليق في فضاءات الحنين

 الدستور-نضال برقان

في قصيدته «الجنوبي»، يقول الشاعر المصري أمل دنقل: «هل أنا كنت طفلاً/ أم أن الذي كان طفلاً سواي؟ هذه الصورة العائلية: كان أبي جالساً، وأنا واقفٌ.. تتدلى يداي/ رفسة من فرس/ تركت في جبيني شجًا.. وعلَّمت القلب أن يحترس»، من هنا يمكن أن نلج إلى فضاءات رواية رمضان الرواشدة الجديدة: «جنوبي» (الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 2019)، ليس فقط كون القصيدة والرواية انحازتا للجنوب، بكل ما يمثله من قيم ومبادئ وأحلام، ولكن، أيضا، كون الرواية تتحدث عن تلك الرفسة، (أو الرفسات)، التي تلقاها بطل الرواية، من (فرس الحياة)، صغيرا ويافعا، وقد تركت في وجهه وقلبه ما تركت من ندوب.
تستهل الرواية، وهي في الحقيقة (نوفيلا) أقرب من كونها رواية، بتأمل الجغرافيا السياسية والاجتماعية والفكرية لكل من: عمان (من خلال منطقة الهاشمي)، وإربد، ومعان، خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وهي الفترة التي شهدت يفاعة بطل الرواية، كما شهدت أحداثا سياسية هامة، سنتعرف على انعكاساتها على أرض الواقع من خلال تطورات الحدث في الرواية.
على سبيل المثال نستطيع أن نقف عند تداعيات أحداث أيلول 1970، وانعكاس تلك الأحداث على الواقع المعيش، من دون الدخول إلى تفاصيل الحدث نفسه. يقول السارد: «كانت حاراتنا لأبناء الجنوب من طفايلة وكركيين وشوابكة ومْعانيين، وكانت الحارة المقابلة لنا يسكنها أهالي بلدة بيت محسير الفلسطينية، ممن شُرّدوا عن فلسطين، وكثيرا ما كلنت «الطوشات» بين حارتنا وحارة المحاسرة، الذين كانوا يتقنون رمي الحجارة الكبيرة المؤذية. كانت نفوس الناس مشحونة جرّاء ما حدث في أيلول عم (السبعين)..».
في رواية الرواشدة الجديدة نوع من الانسحاب من الراهن لصالح ذلك (الزمن الجميل)، على الرغم من بؤسه وفقر أهله، غير أن النفوس كانت عامرة بالمحبة، وهنا يقوم الرواشدة ببسط مجموعة من العادات والتقاليد التي كانت سائدة بين الناس، وقتئذ، وتعكس مدى الترابط الاجتماعي بين الناس على اختلاف مرجعياتهم، فـ»في معان طقوس واحتفالات منها «النْزالة»، وهي تعني أن أهل البيت الأصلي يولمون للسكان الجدد سدرًا من الكبسة السعودية، تسمى «النزْالة»، وهي عادة معروفة عند الكثير من البدو والفلاحين الأردنيين، في حين أنها غير معروفة لدى أهل المدن، مثل عمان..».
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى حميمة لغة السرد في الرواية، وانحيازها للموروث الشفهي، الأمر الذي قدم مهادا دافئا لرسم صورة للحياة الاجتماعية التي كانت سائدة في الأردن، من جنوبه حيث معان، إلى شماله حيث إربد، فوسطه حيث عمان.
ويحاول الرواشدة، صاحب الروايات: «الجمرواوي، 1992»، و»أغنية الرعاة، 1998»، و»النهر لن يفصلني عنك، 2006»، تقديم (جردة حساب) لتجربته الفكرية والسياسية، على لسان بطل الرواية، الذي بدأ حياته يساريً، فناصريًا، ثم متصوفًا، قبل أن تحط به الرحال في حضن السلطة.
يقول السارد في لحظة مكاشفة للذات، ومختصرًا تجربته في الحياة بعامة، وفي الحقل السياسي على وجه الخصور: «أنت الآن تعاني الشيزوفرينيا، بين الحنين إلى أيام المعارضة والواقع الذي تعيشه، متمتعا بفضلات ما تقدمه لك الدولة بعد أن أصبحت جزءًا منها، وتنطق باسمها!.. يا الله كم تغيرت يا جنوبي! ملعونة هي السلطة، فهي محرقة لكل الطيبين من الأنقياء مثلك! وهي مثل الفانوس أو «الشمبر»، كما يسمونه في بلدتك الجنوبية، يحرق الفراشات التي تقترب منه، وأنت رغم أنك لم تحترق لأنك بقيت على مسافة مع كل الناس، إلا أنك جزء من السلطة، أهكذا هي نهاية المثقف من اليسار إلى الناصرية إلى الصوفية إلى حضن السلطة؟».
وكان لافتًا للنظر ذلك النص الصوفي، الذي جاء في قرابة اثنتي عشرة صفحة من الرواية، وقد جاء في الجزء الذي يتحدث عن المرحلة الصوفية لدى بطل الرواية، وهو نص مكثف، استطاع أن يعكس رؤية السارد الصوفية.
في الرواية تحضر روائح مجموعة من الأدباء، بدءًا من خليل جبران، إلى أبو حيان التوحيدي، ورابة العدوية، فأمل دنقل، وحبيب الزيودي، ومن ثمّ الكاتب الساحر محمد طمليه، صاحب المجموعة القصصية المشهورة (المتحمسون الأوغاد)، وقد حمل الجزء الأخير من الرواية عنوان «آه منكم أيها المثقفون الاوغاد»، وهو ما يشي إلى التعاشق بين العنوانين من جهة، وبين مضمون قصة طمليه والجزء الأخير من رواية الرواشدة، ولإدانتهما للمثقفين اليساريين الذي استطاعت السلطة شراءهم/ استيعابهم/ توظيفهم وفق مصالحها.
على الصعيد الفني فقد ظلّ بطل الرواية ممسكا بزمام السرد والحكي، على الرغم من وجود شخصيات أخرى مؤثرة، غير أن الضوء ظل مسلّطا حول السارد، ومن خلاله على الحدث، وقد استخدم الرواشدة تقنية الاسترجاع، من بداية الرواية إلى نهايتها.
الزمان في الرواية كان رتيبًا، فقد بدأت الرواية مع بطل الرواية صغيرًا، وتدرج به الزمن، من دون قفزات غير متوقعة بالنسبة للقارئ، أما المكان فقد عكس دفء أهله، واستطاع إيصال ذلك الدفء للقارئ.
ويسجل الرواشدة، في «جنوبي» عودة إلى الرواية بعد غياب وصل لقرابة خمسة عشر عامًا.