الراي - د. عماد الضمور ( ناقد أردني) -
برز مفهوم المدينة في العصر الحديث بشكل واضح ممثلة للمكان بأبعاده الفكرية والفنية، بسبب الظروف السياسية والاجتماعية المتنامية، وبفعل المذاهب الأدبية التي وقفت من المدينة مواقف مختلفة.
شكّل تاريخ عمّان الموغل في القدم(4500 ق.م) إرثًا عميقًا لها على مرّ السنين؛ فهي فيلادلفيا بمعنى المحبة الأخوية، وهي ربة عمون بمعنى دار الملك أو العاصمة، وهي في تشكلاتها المعاصرة في الفن لم تبتعد عن هذه المعاني العميقة.
جميلٌ أن تقترن عمّان بالقدس، فهما مدينتان عربيتان تتصلان اتّصالاً روحيًّا مقدسًا، يشكّل علاقة توأمة وارتباط الروح بالجسد، تتوهجان في وقتنا المعاصر بنبض هاشمي موصول العطاء، ننظر من خلاله نظرة استشراف عمانيّة، وحلم جماعي عنوانه البناء والإنجاز.
لقد ظهرت عمّان في الرواية الأردنية متأثرة بتاريخها البعيد، ومتلبسة بأبعاد اجتماعيّة، وسياسية، واقتصادية وثقافية أسهمت في نشأتها، وجعلت سؤال الهوية إحدى الأسئلة المهمة في صورتها الروائية، بعدما شهدت هذه المدينة نموًّا سكانيّا واضحًا، وحركات نزوح لعائلات تجارية من سوريا وفلسطين ولبنان، فضلاً عمّا أحدثه نشأتها على يد المهاجرين الشراكسة من أثر بالغ الأهمية في تاريخها، وهي في ذلك كلّه جزء من تحولات المدينة العربية المعاصرة.
تتمركّز عمّان في الرواية الأردنية بأبعاد مختلفة: جغرافيّة، ونفسيّة، واجتماعيّة، وفنية ذات طابع جمالي مدهش؛ فهي فضاء مفتوح ينتشي فيه العمانيّ بهواء الكرامة والعروبة، والحرية. حيث تتشكّل بأسماء أحيائها وجبالها وشوارعها وأسواقها، وآثارها الخالدة، وكأن الروائي يحمل عدسة فنان يرسم ويصور المكان بتفاصيله، كما فعل كثير من الروائيين في علاقتهم بالمكان العماني الخصب مثل: هاشم غرايبة في روايته ( الشهبندر) و جمال ناجي في روايته( عندما تشيخ الذئاب) وسميحة خريس في روايتها ( دفاتر الطوفان) وليلى الأطرش في روايتها ( رغبات ذاك الخريف) وغيرهم من الروائيين المتعطشين لكشف أسرار المكان العماني بأبعاده المادية والمعنوية الملهمة.
جاءت شوارع جبل الجوفة أحد أحياء عمّان الشعبيّة في رواية (الغربان ) للروائي هزاع البراري فضاءً نفسيًّا مفتوحًا، يختزل ذكريات الشخوص، ويتشبع بأحزانها الكثيرة. فقد صنعت شوارع جبل الجوفة من شخصية فاطمة تمثالاً من الألم بعدما فقدت أمها، وأخاها، وحبيبها، الأمر الذي جعل الشارع بجمالياته الفنيّة لوحة فنية ألوانها الحزن، وباعثها الألم.
ظهرت عمّان بأمكنتها التاريخية بشكل واضح في رواية هزاع البراري، ( أعالي الخوف) حيث يوظف جبل القلعة واصفًا حالة البطل فارس بعد فشله في إحدى لقاءاته الغراميّة، إذ يتوحّد المكان ببعده التاريخي بالبطل الذي يلتجئ للمكان كلما ضاقت الحياة في وجهه، ويلتجئ إليه ليشاركه أحزانه، فهومكان الشخصية المأزومة، وموطن الذكريات العتيقة.
أمّا رواية ( جنوبي) للروائي رمضان الرواشدة فتجسّد صراعات أيديولوجية تلامس شرائح مختلفة من المجتمع الأردني، إذ تكشف الرواية عن صورة مدينة عمّان الملهمة للمبدعين، وبخاصة عند حديثه العشقيّ عن منطقة الهاشمي الجنوبي، هذه المنطقة التي نمت بالمحبة بين سكانها.
إنّ الحضور اللافت للهاشمي الجنوبي في الرواية جعل من عمّان مكانًا يقترب من عالم القرية أكثر منه إلى عالم المدينة، أو إلى البيت الأليف على حدّ تعبير باشلار.
كذلك جاءت شخصية ( جنوبي) في الرواية متمسكة بإرثها الوطني، لم تفقد اتّصالها بالوطن والدفاع عنه في حالاتها الإيديولوجية المختلفة؛ لأنها منبثقة منه، راسخة الجذور في ترابه، مؤمنة برسالته السامية.
الروائي زياد القاسم في روايته ( أبناء القلعة) وثق عمّان إبداعيًّا، وسرد ذاكرتها الشعبيّة، فقد صوّر مدينة عمّان خلال الأربعينيات، والخمسينيات وصولاً إلى 1967م منطلقًا من جبل القلعة التاريخي الذي يشكل أيقونة مهمة وجانبًا مشرقًا من تاريخ عمّان الحديث، حيث جعله ممثلاً لمختلف الفئات والشرائح الاجتماعية التي سكنت مدينة عمّان.
لقد استطاع زياد القاسم تزويدنا بتاريخ عمّان الحديثة منصهرًا بتراثه الشعبي، ولهجة سكانها المحكيّة ؛ لتصبح روايته مرجعية مهمة للباحثين عن نشأة المدينة وتطورها الاجتماعي، بدلالاته الفكرية المختلفة.
أمّا رواية زياد القاسم » الزوبعة» فقد رصدت نشأة عمّان المعاصرة مع قدوم أفواج المهاجرين من الشركس والشيشان، ودورهم البارز في نشأة المدينة المعاصرة.
ومن الناحية الجماليّة، فقد قام الروائي جلال برجس في روايته» دفاتر الورّاق» بمقاربة المكان العمانيّ جماليّا وفكرياّ، فنقرأ سيرة عمان بتحولاتها الفكرية المدهشة وانعكاساتها الحضارية على ساكنيها، حيث حضرت شخصية إبراهيم الورّاق شاهدة على الأسئلة القلقة التي يحفرها المكان في ساكنيه.
لقد أبدع جلال بتوصيف المكان بمكر سرديّ، وشغف فنان، ووعي واضح قادر على بيان أثر المكان في الشخصيات ورفدها بالرؤى الخصبة، والأمزجة المختلفة. ذاكرة متّقدة، وبراعة في التوصيف أفرزت حواسًا متيقظة لعمّان التي باتت موجّهة لسلوكيات الشخوص، ومؤثرة في فعل القراءة لمجريات الأحداث في الرواية وبشكل لامس روح عمّان الحيّة، وتأهبها الجمالي لسرد مزيد من الحكايات، فضلاً عن قدرتها المدهشة في صقل الشخوص بحالات نفسيّة متباينة من حيث الفرح أو الحزن.
اشتغل جلال برجس في روايته» دفاتر الورّاق» على مدينة عمّان اشتغالاً هندسيّاً من وجهة نظر الفنان الذي يرصد حركة الشخوص في المكان، وطبيعة انفعالاتها، ومصائر أحلامها بكثافة أحزانها، وضآلة فرحها، وهزائمها المتتالية.
عمّان في رواية » دفاتر الورّاق» مدينة واقعية ذات طبيعة ملهمة في أحيائها العتيقة وأمكنتها المدهشة التي تبدّت في الرواية من خلال عمّان الشرقية: جبل الجوفة، ووسط البلد، وجبل اللويبدة، هذه الأمكنة كانت أسرة لقلوب ساكنيها، ورفيقة بها.
يبقى سرّ الكتابة الإبداعيّة للمكان العماني حاضرًا في الكتابة الروائية، تتشكّل بريشة فنان، وعين مهندس معماري يرصد جغرافيتها المدهشة؛ فهي مدينة ما تزال تنمو وتتشكّل إلى جانب حداثة تكوينها، وهذا أتاح للروائيين إمكانية الكشف والرصد معًا، واختيار النماذج القادرة على تجسيد الواقع إبداعيّا، فضلاً عن قدراتها على التخييل الروائي، إذ عكست قدرة الروائيين على تكييف خيالهم جانبًا ملهمًا في الكتابة العمانيّة.
وهذا في اعتقادي أسهم في نجاح الروائيين في إظهار مفاتن المكان العماني، وعراقته، والتوغل في عمق أمكنة باتت جزءًا مهمًا من تاريخ عمّان المعاصر مثل: حي الطفايلة، وحي المعانية، وحي الأرمن، وحي الشابسوغ، وسوق اليمنيّة، وشارع طلال، والمهاجرين، ورأس العين، وسيل عمّان، وسبيل الحوريات. ولا ننسى فضاء عمّان الواسع المنتشي بأناسها الطيبين الذين صاغوا تاريخها الحديث، فنقرأ فيها نماذج مشرقة لساكني المدينة من البدو، والفلسطينيين، والشوام، والشراكسة،، والعراقيين، وغيرهم من العرب الذين وفدوا إلى عمّان واحتموا بها بوصفها دوحة هاشمية وارفة الظلال، وحصنًا عروبيًّا.إذ شهدت المدينة هجرات داخلية وخارجية منحتها تنوعًا وخصبًا وتماسكًا أمدّ الفن بمقومات الإبداع والتميّز.
وعند الحديث عن عمّان بوصفها بيتًا ومستقرًا لجيل من الأدباء، فإن ذلك يقود إلى ما تحدث عنه الفيلسوف ( باشلار) من أن الأمكنة الأليفة هي أكثر الأمكنة قدرة على التشكّل الجمالي وبعثًا للأخيلة، واستدعاء للذاكرة المنتجة للأحداث، وهذا يكشف عن إحساس عذري بالمكان؛ فعمّان مدينة ملهمة وغانية ساحرة.
لقد جسّدت عمّان في الرواية الأردنية نموذجًا قوميًّا ومبعثًا للوحدة والاسقرار، وهذا أسهم في خلق لغة جديدة وتفجير الدلالات العميقة في النص الروائي وفق رؤى الفن بعيدًا عن قيود الواقع وجغرافيته المحدودة، الأمر الذي يستدعي حركة نقديّة تواكب تصوير المبدعين لعمّان واستخلاص الرموز الحضارية والأبعاد الإنسانية التي يتضمنها الأدب المستمدة من روح المكان وأصالته بعيدًا عن التأثيرات الأجنبية التي صاغت نظرية المكان في الإبداع الأدبي العربي.