Saturday 20th of December 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Dec-2025

«موتى يجرُّون السَّماء» لموسى حوامدة.. اللغة المدبَّبة والحادَّة والتي تبحث عن الممكنات الشعرية
الدستور - مهدي نصير -
موسى حوامدة شاعرٌ مطبوعٌ، مرهفٌ، مثقفٌ، يعي تاريخ أمَّتهِ وتاريخَ شِعريَّتها ولغتها وأحزانها ونكباتها، ويحلم بالممكنات التي تجعل من هذا الجزء المنكوب من العالم مكاناً قابلاً للقصيدةِ، وقابلاً لمواصلة الحياة كنوع من أنواع البشر الذين يقطنون هذا الكوكب ويعيشون هذا التاريخ الممزق.
من قصيدة «لنهتف للوردة، سلاماً أيتها الحمراء كلون الدَّمِ الفلسطيني» يقول موسى حوامدة:
«لم نستطع وقْفَ المجزرة،
لم نستطع لجْمَ العدوان،
لم نستطع تغيير العالم،
حسناً..
لنفعلَ أشياءَ أفضل،
لنهتفَ للوردةِ:
سلاماً أيتها الحمراءُ كلون الدَّمِ الفلسطيني،
سلاماً أيتها الزكيَّةُ،
سلاماً – وأنتِ تصُدِّينَ جنازيرَ الدباباتِ
بأغصانكِ الواهية،
بلحمِكِ العاري،
بسحرِكِ البسيط وأوراقكِ الطَّريةِ
صرتِ وجهاً جديداً لاحتفالاتِ العشاق.» ص 8-9
قصيدة موسى حوامدة قصيدةُ نثرٍ عالية، لم تولد من الفراغ، وإنما تناسلت من تجربةِ شاعرٍ عرف الشِّعرَ العربيَّ بإيقاعاته وعروضه وأوزانه وتفاعيله، فلموسى حوامدة في بداياته الأولى قصائد عمودية وقصائد تفعيلية، وما زلنا في قصائده نقرأ ظِلالَ مقاطعٍ تفعيليةٍ واضحةِ النسب ونقرأ كذلك في متنِ هذه القصائد المتحرِّرة من قيد العروض والوزن ولكنها الممتلئة بإيقاعات اللغة الداخلية الضَّاجة والتي يتقن موسى حوامدة تدجينها وإدخالها إلى قصيدته.
نقرأ مثلاً من قصيدة «موتى يجرُّون السَّماء»:
«جرحوا مئذنةَ الصوفيِّ
قتلوا معزاةَ غاندي،
كسروا صليبَ التلحميِّ،
فجَّروا بئرَ الكتمان» ص 70
نقرأ في هذا المقطع مزيجاً من تفاعيل خليلية: (فاعلاتن، مستفعلن، فاعلن) وبنسق متتالي عفوي يوحي بظلالٍ قديمةٍ لتجربةٍ شعرية ذات نسق تفعيلي، ومثل هذا نجده كثيراً في قصائد موسى حوامدة، ونجده أيضاً في قصائد الشعراء الكبار الذين انتقلوا لقصيدة النثر انتقالاً واعياً ومدركاً وهاضماً لإيقاعات لغته وشعريتها عبر التاريخ.
ميزةٌ إيقاعيةٌ أخرى تبرز في قصيدة موسى حوامدة وتتمثَّل في تكرارِ لازمةٍ لغويةٍ إيقاعيةٍ تُعطي للقصيدةِ نكهتها ولونها وموسيقاها أيضاً، نجد ذلك في قصيدة «لنهتف للوردة» تكرار اللازمة «حسناً»، وكذلك في قصيدة «حين يأتي الموت» وتكرار عنوان القصيدة في مقاطع متتالية ومتنامية تأخذ المتلقي بعيداً وتُعيده عبر هذه اللازمة لأرض الشاعر وقصيدته، وفي قصيدة «ليست ميتَّةً هذه القصيدة» وتكرار عنوان القصيدة أيضاً بوتيرةٍ إيقاعية تجعل القصيدة تدور وتتنقل وتعود للمقولة التي يريد الشاعر أن يؤكَّدها عبر هذا التكرار، وفي قصيدة الشبيهة وقصيدة «كما ليلي يطرقُ بابَ الفجر» يمارس الشاعر موسى حوامدة التقنية ذاتها بوعي ومقدرةٍ عاليتين على إبقاء أنفاس المتلقي تتابعه وتلاحق موجاته وتراتيله.
قصيدة موسى حوامدة أيضاً قصيدةٌ مسكونةٌ بالتاريخ والأسطورةِ والانكساراتِ العميقةِ التي تحياها هذه الجغرافيا العربية المعجونة بالدَّمِ والقتلِ والغزو والاستلاب.
وقصيدته قصيدةٌ تبحثُ عن جذور الخصبِ، وجذور الخوف، وجذور الفجيعة، فهي تستدعي وتحاور: (أدونيس، آمون، أخناتون، عناة، بعل، جلجامش، غرناطة، الشام، القدس، القاهرة، بيروت.. الخ)، كانت القصيدةُ تستدعي هذا المخزون المليء بالحزن والانكسار والفرح الشحيح المتخبِّيء في زوايا حكايات أبطالهِ الأسطوريين والمنكسرين أيضاً.
قصيدة موسى حوامدة قصيدةٌ ضدُّ الأسطورة، وتبحث في الممكنات الواقعية والتاريخية بعد أن انهزمت الأسطورة التي حلَّقت عالياً وطالبت أن يكون التاج للوردة، يقول موسى حوامدة في قصيدته «حين يأتي الموت»:
«حينَ يأتي الموتُ
سأرمي زهرةَ الخلودِ
في وجهِ جلجامش
وأهزأ من نصائح الأطباء» ص 19
 قصيدة موسى حوامدة تبحث عن مكانٍ للوردة على هذه الأرض الخراب، وعلى طين هذا التاريخ الشرس، ولا تطالب لهذه الوردة بتاجها الأسطوري المغتَصب، وتعترف قصيدته بموت الأسطورة وهزيمتها وبأننا أيتام الأسطورة البائسين،
يقول موسى حوامدة في قصيدته «شجرةُ الموتى»:
«لسنا شعباً من كثيرين،
أنا يتيمُ الأسطورةِ،
حاملُ مشعلِ الخراب» ص 63
قصيدة موسى حوامدة انكسارُ العاشقِ والشاعرِ أمامَ تاريخٍ شرسٍ، جبَّارٍ وعاتٍ، داس كلَّ إمكانيات الحياة وتركنا في العراء عراةً وحُفاةً نستجدي قطرةَ ماءٍ لوردةٍ صغيرةٍ شاحبةٍ، هي كلُّ ما تبقَّى لنا في هذه الأرض الخراب،
يقول موسى حوامدة في قصيدته «لنهتفَ للوردة»:
«لم نستطع أن نشعلَ النارَ
في حطبِ المستحيل،
لم نُخرِّب هلاميَّةَ الفيزياء
وانحيازَ الشرِّ في عفن الأسطورة،
لم نرفع أيدينا لنمسكَ الغربان،
حسناً،
لنمسحَ الغبارَ عن وجهِ الأشجارِ
لتظلَّ سماءُ غزَّةَ صافيةً،
فربَّما نحتاجها
لنغرزَ إصبعاً في عين الشمسِ
ونفتكَ بخيوطِ الذهبِ الصفراء.» ص 10
مجازاً ربَّما أستطيعُ أن أقول أنَّ قصيدة موسى حوامدة هي قصيدة « الوجودية التاريخية أو الوجودية الجمعية « في مقابل مفهوم الوجودية الفردية الذي كرَّسته الفلسفة الوجودية في فرنسا وأوروبا في القرن العشرين، كردِّ فعلٍ على تحقُّق الأنا الجمعية الغربية وسحق الأنا الفردية أمام طاغوت وجبروت العلم والتقنية الغربية العاتية. أما نحن، الشرقيين، فأنانا الجمعية الشرقية العليا هي المُنتهَكة والمغتَصبة والتي نبحثُ عن شكلٍ وصيغةٍ تلملمنا أمام طوفان العولمة الغربية الطاغية، وأمام هامشيتنا وسلبيتنا وضعفنا واستلابنا الجمعيِّ العميق.
في لغةِ موسى حوامدة لغتان فواحدةٌ لغةُ الشاعر الباحث عن الخصب والجمال في الطبيعة والجغرافيا والتاريخ، وواحدةٌ تجذبه لواقعٍ سياسيٍّ مأساويٍّ وأفقٍ مغلقٍ وتاريخٍ يتكسَّرُ تحتَ سياطِ التخلُّف والتبعية والخيانة والهزيمة.
موسى حوامدة شاعرٌ حاول أن يمزجَ الضوءَ بكتلة الطينِ وبكِسَر الفخَّار الكنعانية التي عُجنتْ عبر التاريخِ بالدَّمِ، لعلَّهُ يجوهرُ ويضيءُ هذا الطينَ الكنعانيَّ المقدَّس، الذي ما زال ينزفُ دماً زكيَّاً طاهراً حتى الآن.