مجموعة ((كلّما ومض الحنين)) الشعرية لأسماء شاهين.. قراءة أوّليّة..
الراي-أ.د. إبراهيم السعافين / (أستاذ النقد الأدبي)
هذه المجموعة التي تضم قصائد تنتمي إلى ما يُطلق عليه » قصيدة النثر» تمتاز ببعض السّمات الأساسيّة: امتلاكها لغة خاصة مكثفة مقتصدة، وامتلاكها الفكرة الإنسانيّة العميقة، وامتلاكها العاطفة القويّة والهادئة معًا، وهي سمات قلّما تجتمع لدى شاعرة شابة تخطو خطواتها الأولى في ميدان الشّعر، ولعلّ سمةً أخرى تنضاف إلى هذه السّمات هي امتلاكها موهبة لافتة، وهي موهبة الرّسم الذي وظّفته أيضًا في تأويل دلالات القصائد وكأنّها واحدةٌ من القرّاء.
وإذا كانت القصائد في مجملها تعبّر عن الشّعور الإنسانيّ العميق فإنّها لا تعمد إلى المباشرة في كشف من تتوجّه إليهم بالخطاب سواء أكانت تصرّح أو تكنّي، فالأمر في الحالتين سواء، لأنّ اللغة المكثفة التي تعبّر وتوحي لا تكشف عن ذاتها كشفًا مباشرًا، ولكنّها بحسب طبيعة بنائها تميل إلى قدر من الغموض الممتع الذي يستفزّ القارئ للبحث عن الدلالة والمعنى, ولعلّ القصائد تتجه في صورتها العامة إلى الموضوعة العاطفيّة وموضوعة الرّثاء، ومن أصدق الرّثاء رثاء الأم
قصائد هذه المجموعة لا تنطلق من شكل القصيدة العربيّة الخارجي المألوف الذي سار على سننه الشعراء على مدى السنين، لا شكل الشّطرين ولا شكل التفعيلة، لا التزام بالتفعيلات ولا بالقوافي؛ فالقصيدة، لدى أسماء شاهين، حرّة إلّا من شرط الشّعرية الدّقيق، وهو امتلاك اللغة الخاصة التي تنزاح عن مألوف الجملة الشعرية وتكسر قواعد القبيلة الشّعريّة، ليست قواعد شعر الشّطرين ولا شعر التفعيلة وحسب، ولكن شعر قصيدة النثر أيضًا من دون تكلّفٍ وافتعال. هذه اللغة الخاصّة أو هذه الحنجرة الأصيلة تستلهم صوتها من تجربة حيّة وشعور عميق يوحي بالبساطة الخادعة.
ها هي تتحدّث عن الأم في حوارٍ حميم، وكأنّها لم تُفجع بعدُ بالغياب:
ترقب بمقلتيها...
ويغفو على حدقتيها
نهر غزير
لا أحد يراقبها
لا أحد إن سال حبر عينيها
سينسحب أو يقول:
كنت ودادي الذي ألقيت به
فألقت بي في الهوى لقياك
تنسج بين يديها قبل الغائبين
وتكتب برعشة:
آهٍ كيف دفنتني
فخلقتني؟
أما علمت أن البذور بعد دفنها
تثور؟
ولنا ان نرى عمق الإحساس في قفلة القصيدة الشعرية المثقفة المصفّاة التي تحيل إلى عقائد وأساطير في ثيمة البعث بعد الموت، ونرى في هذا الصّدد الاحتفالية الطقسيّة في حادثة الموت في قصيدة «» رفقةٌ أسرتْ–إلى أمّي"ما يذكّر بصنيع جون ملتن في قصيدته ليسيداس في رثاء صديقه حيث يحتفي الكون والطبيعة والكائنات المختلفة بهذا المشهد المهيب الذي يتقاطع مع مشهد موت الفقيه الحنفي الجبلّي لدى أبي العلاء المعرّي.في قصيدته المشهورة» غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي «
وإذا كان بعض الشعراء والنقّاد يتحدثون عن الشعر الخالص أو الصافي ويرون أنّ الشعر الحقّ هو الذي لا يكشف عن رسالة، وتعيش الشعريّة في مدوّنتها لا تغادرها، فإنّ أسماء وهي لا تتوسّل بالمباشرة الظّاهرة في التعبير تلحّ على الاحتفاظ بالرّسالة وهي في أوج تمسكها بطاقتها الشعرية، فالفن لديها شعرًا ورسمًا رسالة وقضية على نحو ما نرى في قصيدة » الموسيقى: جسد مصلوب"ولا تغادر شعريتها المكثّفة حتى وهي تقترب من تخوم المباشرة في قصيدتها القصيرة جدًّا» الهروب» التي تقول فيها:
هو الفلسطيني مذ وُلد
لا سريرَ له
له الخيال بحرقةٍ يضاجعه
وموتٌ يأتي كلَّ يوم
مجموعة أسماء شاهين» كلّما ومض الحنين» جديرة بالاحتفاء وبدراسات تتناول لغتها الخاصة على ضوء نظرية العلاقة بين الفنون.