Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Apr-2019

حريق نوتردام.. أوكازيون الكراهية

 القدس العربي-صادق الطائي

ما أن ارتفعت ألسنة اللهب ملتهمة سقف الكاتدرائية الأشهر في أوروبا، حتى حبس العالم أنفاسه وهو يتابع الخبر المفجع لحظة بلحظة. كنيسة أو كاتدرائية نوتردام لم تعد رمزا دينيا مسيحيا فقط، بل تحولت إلى رمز ثقافي وسياحي إنساني يزورها ملايين السياح في قلب باريس كل عام، ليشاهدوا الكنيسة التي بنيت قبل 850 عاما، والتي ربما ساعد في شهرتها العالمية أديب فرنسا الخالد فيكتور هوغو الذي جعل الكاتدرائية مكان الحدث الأهم في روايته الشهيرة «أحدب نوتردام».
اللافت للنظر تعاطي البعض في عالمنا العربي والإسلامي مع الحدث، إذ سرعان ما انتقلت شرارات الكراهية من سقف الكاتدرائية المحترق إلى صفحات التواصل الاجتماعي لتبدأ حملات من الشتم والاستهزاء، بل التشفي المفرط في لامعقوليته. فقد اتخذ بعض المعلقين من المواقف السياسية الاستعمارية الغربية بشكل عام، والفرنسية بشكل خاص، منصة لإطلاق هجوم معتمد على الربط بين احتلالات فرنسا لأوطاننا وسياستها العدائية المعروفة تاريخيا تجاه شعوب مستعمراتها من جانب، واحتراق كاتدرائية تاريخية في باريس ومحاولة تصوير الأمر على أنه نوع من عقاب إلهي على السلوك الاستعماري، متأخر بعض الشيء حوالي قرن أو أكثر، لقد كتب عديدون بهذا النفس، لتأتي تعليقاتهم مغلفة بغمامة من أبشع عبارات التشفي وأكثرها لاعقلانية.
وللأمانة يجب الإشارة إلى أن هذا الامر لم يكن رد فعل عربي إسلامي فقط، إذ ذكرت صحيفتا «ألو» و»إنفورمر» الصربيتين، خبر احتراق كنيسة نوتردام باعتباره: «عقاب من الله بسبب البصق على الضحايا الصرب ‏بحرب التسعينيات في كوسوفو». ولأسباب غير معلنة، سرعان ما حذف الخبر من موقعي الصحيفتين الصربيتين، ربما بسبب الخوف من الملاحقة القانونية.
بينما كانت التعليقات في منصات التواصل الاجتماعي المتفاعلة مع الحدث في دولنا، تذكّر بمآسينا التي تتلاحق بسبب «حقد الغرب الكافر» علينا، بحسب رأي المعلقين، وأن دول الغرب ومنها فرنسا شاركت في حملات تدمير بلداننا. فقد كتب معلق من سوريا على الحدث تحت عنوان ‏»ما بين حريق نوتردام وتدمير تدمُر: حينما كانت الجماعات الإرهابية العالمية المرتزقة، تطلق القذائف لتحرق أحياء (دمشق) أقدم عاصمة في التاريخ، وحينما تم تفجير (المسجد الأموي) الذي عمره 1200 عام، وحينما هدمت آثار مدينة (تدمر) التي عمرها 5000 عام، وحينما تم تدمير (كنيسة) السيدة العذراء في مدينةً حمص، التي تم بناؤها سنة 50 بعد الميلاد، كانت فرنسا – التي تبكي اليوم حريق كاتدرائية نوتردام – تدعم تلك الجماعات وتقصف سوريا بالصواريخ بمعيّة أمريكا وبريطانيا. أنت أيها العربي من تصنع قيمتك وقيمك تاريخك وآثارك ومدلولها الحضاري».
لكن بعض التعليقات التي جاءت في خضم نوع من أوكازيون الكراهية التي طفحت على صفحات التواصل الاجتماعي، جاء بشكل لافت من الجالية المغاربية التي تعيش في فرنسا، أو هكذا انعكس الأمر، إذ بدأت أصوات وصفحات حقيقية ووهمية تعلن فرحها بـ»احتراق الصليب» أو «سقوط الصليب» المرفوع على برج كنيسة نوتردام في قلب باريس، كما جاءت بعض التعليقات مستفزة بشكل ملحوظ، مثل التغزل بمشهد النيران والدخان الذي غطى سماء باريس، أو دعوة البعض إلى المشاركة في إطفاء الحريق بسكب المزيد من البنزين على الكنيسة المحترقة.
 
نرفض كل السياسات الاستعمارية، لكن هذا لا يعني الفرح والتشفي بدمار معالم الحضارة الإنسانية في العالم
 
من جانبهم حاول بعض الأشخاص ترسم خطوط تبدو في ظاهرها ذات مضمون تاريخي عقلاني، لكنها في حقيقتها كانت تمثل نموذجا للعته واللاعقلانية، مثل أحد التعليقات الذي كتب صاحبه موضحا ما جرى للكاتدرائية الرمز فقال: «سنة 1185م، في داخل كنيسة نوتردام دعا بابا الكنيسة كلا من فيليب أوغست ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا وفريدرك باربروسا ملك ألمانيا إلى اجتماع … وفي هذا الاجتماع قرروا انطلاق أقوى حملة صليبية على الإسلام والمسلمين، وهي الحملة الصليبية الثالثة ومنها، انطلقت حشود جيوشهم.. وفي هذه الحملة ذبح أكثرمن 70 ألف مسلم في القدس. اليوم هو يوم الثأر».
ورغم عدم دقة المعلومات التاريخية الواردة حول الاجتماع المذكور، وأن من نقله اعتمد الفيلم المصري «الناصر صلاح الدين» بكل اخطائه، مصدرا لمعلوماته، إلا أن البعض ذهب عميقا في الربط القدري، إذ كتب أحد المعلقين موضحا العلاقة القدرية بين المئذنة الحدباء في مدينة الموصل العراقية وبرج كنيسة نوتردام الفرنسية، فقال:»بناء كلا العمارتين في العقد ذاته.. الكاتدرائية بنيت عام 1163 والحدباء بنيت عام 1172‏‎. ‎الكاتدرائية كانت بيت انطلاق الحملة الصليبية الثالثة التي قادها فيليب ملك فرنسا، وريتشارد قلب الاسد ملك بريطانيا، ‏وفريدرك ملك المانيا ‏عام 1189.. وهي الحملة ذاتها التي تصدى لها الناصر صلاح الدين الايوبي.. وهو الذي انطلق من ‏عند هذه المئذنة وجامعها الذي أسسه سلفه نور الدين زنكي، واكتمل بناؤه في عهده. وكأنهما بنيتا لتجابه ‏إحداهما الأخرى. وقد انتصرت حدباء الاسلام حينها. ‎صمودهما.. رغم تقلبات الدهر عليهما لأكثر ‏من 850 عاما‎.‎‏ تلازم ندّي قدري حتى في سقوطهما القريب جدا‎ .‎سقوط لم ولن يسكت لحن الخلود ‏ونداء السماء «الله اكبر».. ولا نعرف إن توقفت أجراس الأحدب كوازيمودو.. أم ستظل تغنيه كما ‏وعدته تلك الغجرية أزميرالدا.. وقد انتقل حوار الأديان من رجالها إلى ابراجها»‏.
من جانب آخر، أثارت هذه السلوكيات اليمين المتطرف في فرنسا، وفي عموم أوروبا، إذ استغلت أحزاب وحركات وشخصيات مختلفة ما جرى، لإطلاق حملات اسلاموفوبيا في المجتمعات الاوروبية عبر التركيز والتضخيم المتعمد لتصريحات الكراهية التي اطلقت عبر منصات التواصل الاجتماعي. وفي موجة كراهية مضادة ومنظمة ضد الجاليات المسلمة في اوروبا، عبّر العديد من اليمينين عن وجهات نظر مغرقة في العنصرية، فقد شبّه الباحث اليميني جاك بوسوبيك، حادثة حريق الكاتدرائية بـ»هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الكاثوليك». وكتب بوسوبيك: «يقول الكثير من الكاثوليكيين إن حريق نوتردام جعلهم يستذكون أحداث 11 (سبتمبر)»، وأضاف: «بالطبع لا يعني هذا وجود مقارنة حرفية، لكن بالنسبة للكثيرين منا، فإن صور الأيقونات المحببة تغمرها النيران تثير لدينا المشاعر نفسها من الغضب والخسارة». ويتضح بشكل جلي من هذا الخطاب محاولة تسويق وجهات نظر لرجل الشارع في فرنسا تربط حدث حريق الكاتدرائية بعمل إرهابي قامت به جهات إسلامية متطرفة.
وربما كان التعليق الأخطر، والاكثر استفزازا، هو الذي أوردته صحيفة «الإندبندت» البريطانية ضمن تغطيتها أحداث حريق باريس. إذ ذكرت الصحيفة التعليقات والتغريدات التي نشرها إعلاميون ومعلّقون من اليمين المتطرف، ضمن هذا السياق، أبرزهم ريتشارد سبنسر الذي كتب: «إذا كانت نيران نوتردام ستؤدي إلى تحفيز الرجل الأبيض على العمل لفرض سيطرته في بلدانه، في أوروبا والعالم، فإنها تكون قد قدّمت خدمة وغرضاً مجيداً، وسنبارك هذا اليوم».
كما ادعت النائبة عن حزب « البديل من أجل المانيا» اليميني المتطرف أليس فيدل، عبر تويتر، أن حريق نوتردام ربما يكون هجوما يستهدف المسيحيين، رابطة بينه وبين حريق «سان سولبيس» ثاني أكبر كنيسة في العاصمة باريس، في شهر مارس/آذار الماضي. وأردفت تقول: «فرنسا شهدت أيضا 47 هجوماً ضد المسيحيين، خلال فبراير/شباط الماضي، وهذه الأمور ليست مصادفة»، حسب تعبيرها. من جانبها حرضت سوزانا تشيكاردي‏ عمدة بلدية «كاشينا»، في محافظة «بيزا» الإيطالية وهي عضو في حزب ليغا نورد اليميني المعادي للأجانب، على أثر حادثة احتراق كاتدرائية نوتردام، عبر ‏تدوينة لها على الفيسبوك تفوح عنصريتها إذ قالت: «الكثير من المسلمين ابتهجوا بسبب هذه ‏الضربة في قلب الثقافة الغربية، وللأسف الكثير من هؤلاء يعيشون في دول أوروبية. ببساطة، كثير من ‏الأغبياء ولكن الكثير منهم يكنون حقدا عميقا لأوروبا، لتاريخنا ولحضاراتنا‎.»‎
وفي خضم أوكازيون الكراهية المجنون الذي عشناه تلك الايام، تناسى العنصريون من كل الأطراف مسؤوليتهم في الوقوف مع بعض لمواجهة أخطار الارهاب والحروب والكوارث الطبيعية، وان التراث الانساني تراث مشترك لكل الانسانية في كل بقاع الارض. ونحن نرفض بكل تأكيد كل السياسات الاستعمارية التي سلكها الغرب تجاه مختلف دول العالم، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الاشكال الفرح أو التشفي بدمار معالم الحضارة الانسانية في اي مكان في العالم. ويجب أن نرفع شعارا واضحا نواجه به مد الجنون المستعر.. معا للوقوف بوجه الكراهية.
كاتب عراقي