Wednesday 2nd of April 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Mar-2025

فضائيّات الحابل والنّابل

 الدستور-محمَّد سلَّام جميعان

 
الذاتُ العربيةُ الآن جريحة كليمة، متأثِّمة، قَلِقة ومُحبَطَة، وعاجزة عن التكيُّف مع حضارة الأقوياء ومع العنف الذي يرسم لوحةً سوريالية للموت المجّانيّ وبقايا الجثث التي تحوم فوقها الغربان
 
إنَّها ذات مرسومة على شاشات البث الفضائي، وسائمة في حقول الصورة، تطارد جراد الألوان الصاخبة؛ وإذ ترى في الفواصل الدعائيّة، الفاتناتِ، بأوصافهن الواردة في معلَّقة الأعشى، تتذكر إبليس والثعبان والتفاحة، وإذ ترى القبور والشواهد تتذكَّر قابيل، وتلوح لها سيماء تيمورلنك وهولاكو...
 
ولأنَّ الذات العربيَّة الجريحة بـ «أيّام العرب» المعاصرة، تكره الصمت ونُباح الكلاب، فإنَّها تلوذ بأضعف الإيمان، وتُصغي إلى البرمائيين في نصائحهم التي تقود إلى الاستبداد الذي عناه الكواكبي بقوله في طبائع الاستبداد: (تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاسـتبداد السـياسي متولّد من الاستبداد الديني... بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان).
 
وهكذا تبحث الذات العربية عن ذاتها المتخيَّلة في الصورة، تتغذَّى بمنتوجاتها. والعلاقة بين الجمهور والصورة تتعدّى التسلوية والتّلهي إلى حدّ الغرق التام في تفاصيلها، وتطابقه وتماهيه معها، والتذاذه بها.
 
لم تستطع الذات العربية النكوصية الارتداديَّة استصدار تقرير طبّي أو فرمان قانوني يحمي شَبكيَّتها من عمى الألوان، ويحفظ عقلها من القُبَل والعمائم والتوابل ونكهات المطبخ الحديث، ووصفات الكهانة التي ستشفي الحارث بن حلّزة اليشكري من داء البَرَص، وتُحصّن غمّازة الخدِّ من الحسد...
 
الكلُّ مبتهجٌ بالصورة: المُصوِّر والمُخرِج والمُشاهِد، ولا أحدَ يصيحُ: « قرِّبا مربط النعامة منّي... «كما صاح المهلهل حين قُتل ابنه. (فالعين) لم تعد تفيض بالدمع، وليست هي جهاز الإبصار، فقد حوَّلتها الصورة إلى حرفٍ استهلَّ به الفراهيدي مُعجمه الشهير «معجم العين»، ولا داعي لاستذكار (عين جالوت) فقطز مُدرجٌ على لائحة الإرهاب وحسبُ المُشاهِد «عيون المها بين الرصافة والجسر» لأنَّ عين المشاهِد العربي غدت أصغر من عيون الشرق آسيويين .
 
إنَّه الاستبداد الجديد الذي دعا الذات العربية إلى أن تكون منشغلة بحريتها المفصَّلة بمقاييس فساتين هيفاء وأليسّا.. حرِّية مزركشة كفساتين بنات الغجر.. حرّية تُغيّر وظيفة اليد من رافعة لراية الوطن وعازفة على أوتار الآلات الموسيقية غِبطةً بالحياة، إلى ممسكة «بالريموت» مشبعة بِمَهمَّة قصّاصي الأثر، ليس طلباً للثقافة والوعي، بل إمعاناً في الرضوخ والاسترخاء أمام الاستبداد الجديد، فاستنشـاق حرية العـالم الحرّ يجب أن تكون من النوافذ بحسب تعليمـات «الباب العالي» و»الصدر الأعظم» .
 
وإذا كان الاستبداد في القديم « يسلب الحرية والوعي»، فإنَّ الاستبداد الجديد « يزيّف الحريّة والوعي» ويُنادي الذات العربية المنصدِعة، التي تكاثرت عليها القواهر والمستلِبات: تعاليْ إلى دواء الإرهاق والحرمان والقلق والجوع وعواصف الأخبار، وعنتريات امرىء القيس في طلب ثأر أبيه، وفخر ابن كلثوم بالصبيّ المفطوم الذي تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا... نَم الآنَ على إيقاع جديد.. لدينا الحلّ، فقيس بن الملوّح الذي أحبّ ليلى ولم يحظ بها سنزوجه منها زواجاً عرفياً ريثما تهدأ الأحوال (برامج التعارف والبحث عن شريك)، وجوع أبي الشمقمق سنداويه بالوجبات السريعة (برامج الطبخ).. حتى الزوجات غير المستويات التضاريس يجدن لدينا ما لم تجده ولّادة بنت المستكفي في بيت أبيها (برامج الريجيم)... لا تخش (الدكتاتور) فالصاحب بن عبّاد في سجن أغمات مسجون، فقد درست دولة الأدارسة والأغالبة ولا غالب إلّا الله. لا تصدِّق الكواكبي حين يقول: (أقبح أنواع الاستبداد، استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمّى استبداد المرء على نفسه). فهذا لغو لا يساوي أرخص أنواع السجائر.. سنريك سحرَة فرعون وهم يفكّون الطلاسم وسيقرأون عليك من آيات الله البيّنات ما يحلّ العقد ويكفيك شرّ حاسد إذا حسد (برامج العلاج والرقى). قُلْ أعوذ بربّ الفلق واخفض توترك الصِّراعيّ مع اللقمة والسلطة والطبيعة، فلدينا من هو أمهر من (ابن سيرين) في تفسير تضغيثات الأحلام والتخريف النفسي، فإذا رأيتَ في منامك قِرداً يقشّر الموز فهذا إيذان بانسحاب القوات الأمريكية وحلول السلام في الشرق الأوسط، وإذا رأيتِ يا أختي في منامِك قطّاً سيامياً فهذا يعني انتهاء عقد عمل خادمتك السيرلانكية، (وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً): ... شرق أوسط جديد مليء (باعتذارات النابغة) عن عداء السّاميَّة والبغضاء والكراهيات والمسوغات البذيئة للوقوع في شباك غواية الحرب والاستنارة والرفض والغثيان الروحي تحت سماء بلا أديان، حتى يغدو من الاستقباح والاستبشاع أن تقول (لا) للغباء المتفوِّق .. لن تصبح مفاهيمك التاريخية خاضعة للحرب الإعلامية التي يتحدَّث عنها وفيها خبراء في شؤون القارات الخمس!.. سنكون على درجة عظيمة من تحريف الحقيقة الحرّة! هذا هو قَدرُك الذي لا تستطيع الفكاك منه كالجوع والشيخوخة والموت، وما تبقّى من بلادات وتفاهات وأوبئة صرت محكوماً لها بحكم منطق وجودك.
 
فالإحساس بالانغلاب والانقهار أمام الآخر يولِّد هوان الاعتبارات الذاتية، فالقواهر الخارجية تضاعف من الإِعْنات أمام القواهر الداخلية، فتُكثِرُ الشخصيةُ المستَلَبةُ والمستَبدُّ بها من الاجترار والاستكئاب: طلب الكآبة، والاستحزان، لأنَّ صورة الحاضر غير ناصعة، وغير بهيّة، فتدخل الذات عندئذ في لحظة انبهار، تُخفِت من حدَّة التوتر الصراعيّ النازفِ من كراماتٍ مجروحة، بفعل الضوابط الاجتماعية الكابحة أو القهر السياسي الرادع للحرية، أو الانحرافات في الوجدان الديني الآيل بالذات إلى عنف ضد ذاتها وضد الآخر، سبيلاً إلى الخروج من القلق والإثم والانجراح، وهو ما يسعى إليه ويوفِّره الاستبداد الجديد، حيث يتواطأ الديني والسياسي ويتقاسمان المهمات (فالمتن) للسياسي و(الحاشية) للفقيه المرسِّخ لمفهوم التبعية والطاعة، والناهز بمهمة التطويع والترويض من خلال النأي بـ(السياسة الشرعية) خارج السياق الأُحدوثي لخطابه، والاكتفاء – من ثم – بالشَّكلانية والتفريعات الصُّغْرَويّة، وتعزيز فكرة الخلاص الفردي، والتنافي والتنافر مع فكرة الخلاص الجماعي أو الاهتمام بالحرية والتفكُّر الحرّ، وتكريس فكرة الموت والحياة الأُخروية، والقناعة بالقليل والتّشظُّف والزهد،... وباختصار شديد: يسعى فقهاء الفضائيات إلى تفكيك العلاقة بين اللقمة والسلطة والمجتمع، وسجن المستمعين والمشاهدين في تصورات مثالية، قوامها الانشغال فحسب بحياة ما بعد الموت، نأياً بالجمهور عن الواقع أو التفكّر الحرّ في واقعه المعصوف بكُبْرَيات القضايا والأزمات.
 
أما مفسرو الأحلام في الفضائيات، فيُسهمون في تكريس غايات الاستبداد الجديد بإلجاء جمهور الحالمين إلى الأحجبة والطلسمات الغيبية، وحرف الحلم وتأويله بعيداً عن واقعته الموضوعية، بجعل الأحلام المؤوّلة وسيلة للتكيف مع واقع الاستبداد الجديد، عن طريق تحويل الأُزعومات إلى اعتقادات، واللعب على فكرة التأويل بالضد. إنَّ إخراج المنامات من اللاوعي إلى الواقع وتحويلها من كونها هواجس مهموسة للباطن إلى حقائق مُسْتَعلَنة للخارج هو احتيال على الطاقة الحرة للإنسان في رفض واقعه، ومن ثم تدجين الإنسان/ صاحب الحلم، وإلجائه إلى الإيمان الوهمي بما ستؤول إليه حياته من بعد.
 
فمؤولو الأحلام الفضائيون يتقصّدون إزاحة العوامل البيئية من تأويلاتهم، ويدعون مستفسريهم إلى عدم إتخام المعدة، وهذه في حد ذاتها عولمة اقتصادية للحلم، قوامها الاحتيال على لقمة المواطن المقهور والمنغلِب، وحقه في العيش الكريم، وتكمن أبعاد هذا الأمر في تقسيم الموائد إلى أطعمة أثرياء وأطعمة فقراء.
 
وبتلقائية وعفوية صارخة ضاجّة ومحتجَّة تنطلق الذات المقهورة بجموح غادِر لذاتها في البحث عن الإشباع الجنسي. واللافت أن الكتب التي عنيت بالجنس في التاريخ العربي انولدت في عصور الانقهار العربي والاستبداد الأجنبيّ حيث الجنس يصير تعويضاً عن خسارات السلطة والاقتصاد والجاه الاجتماعي، وتعويضاً عن فقدان الأمن والطمأنينة، والليلةُ هذهِ تُشبهُ البارحة تلك، في النزوع إلى الخلاص من سلطة الانقهار، وها هي فضائيات الاستبداد الجديد تحقق غاية الاستبداد في كافة عصوره كما أشار إليه الكواكبي (الاستبداد تصرّف فرد أو جمع في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوفِ تبعة).