Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Sep-2020

«الصوت الإنساني» لبيدرو ألمودوفار… تأملات في الوحشة والحنين والرغبة

 القدس العربي-نسرين سيد أحمد

 لم تمنع شهور الإغلاق المعلم الإسباني بيدرو ألمودوفار عن أن يقدم فيلمه الجديد «الصوت الإنساني» في مهرجان فينيسيا في دورته السابعة والسبعين. وقال ألمودوفار في المؤتمر الصحافي للفيلم، إن شهور الإغلاق تلك كانت فرصة له لإعادة اكتشاف الذات، ولخوض غمار عوالم إبداعية جديدة، أسفرت عن فيلمه القصير «الصوت الإنساني»، المعروض خارج المنافسة في المهرجان، وعن فيلمين قصيرين آخرين يخرجان لحيز النور قريبا.
 
جاءت تصريحات ألمودوفار في المؤتمر الصحافي لفيلمه في فينيسيا انتصارا للسينما ولدور العرض، حيث قال إن أشهر الإغلاق بسب الوباء تركت الإنسان حبيسا بين جدران منزله، يعيش في معزل عن العالم، ويكرس وحدته يوما وراء يوم، أما السينما فهي النقيض ودور العرض هي النقيض التام لذلك الشعور بالعزلة، ففيها يلتقي المرء بالآخرين ويتقاسم معهم المشاهدة والمشاعر الإنسانية.
ما يقدمه ألمودوفار في «الصوت الإنساني» هو تكثيف لقضايا طالما شغلته في مسيرته، مشاعر تناولها في «نساء على شفا الانهيار العصبي» و»فولفير»، بل وفي سيرته الذاتية في فيلمه «ألم ومجد». الصوت الإنساني هو رمز التواصل بين البشر، رمز الخروج من العزلة، رمز للحنين لصوت بعينه، الحنين لأنفاس تتردد تؤنس الوحشة.
ما يقدمه ألمودوفار في «الصوت الإنساني» هو بصمته البصرية التي ألفناها ونعشقها، بألوانها الصريحة الصاخبة، الأحمر بلون الرغبة والدماء، والأزرق الحزين الموحش أحيانا والمشرق بلون المساء الصافية تارة أخرى. ولكن هذه المرة يقدم ألمودوفار تجربة فيها من سمات المسرح الكثير، يقدم فيلما يعتمد على مناجاة ذاتية لبطلته، التي لا نعرف لها اسما، وتلعب دورها بتمكن بالغ تيلدا سوينتون. الفيلم الذي تبلغ مدته نصف ساعة، يصطخب بالمشاعر الإنسانية والألم والحب، في مناجاة تمتد نحو 25 دقيقة. تلك المناجاة هي في واقع الحال محادثة هاتفية بين بطلتنا التي تكابد اللوعة والرغبة والحنين، وذلك الحبيب الذي لا نسمع له صوتا ولا نرى منه إلا حلة أنيقة تخلو من جسده، ممدة على الفراش كذكرى لوجوده الذي غاب.
 
 
الفيلم، الذي أسلفنا أنه يحمل من سمات المسرح الكثير، مقتبس عن عمل مسرحي لجان كوكتو، استلهمه ألمودوفار في العديد من أفلامه، بل إنه قال ضاحكا في المؤتمر الصحافي لفيلميه في فينيسيا إنه تمثل هذا النص تماما، حتى إن فيلمه الأحدث هذا قد يكون التعامل الأخير له مع هذا النص، الذي شغله ورافقه واستحضره في أفلامه على مدى سنوات طويلة. تلك المرأة التي نلقاها في أكثر لحظاتها هشاشة وألما، هي محور «الصوت الإنساني» وجوهره. هي امرأة أنيقة، أربعينية، ولكن أناقتها اللافتة لا تخفي قلق روحها واضطرابها ووحشتها. هي تستحلف هذا الحبيب الذي غادر تاركا أعواما من الحب، أن يعود، ربما للقاء أخير، أو ربما لأمل يائس منها في أن يعود لها، أو ربما لوضع خاتمة تليق بقصة حب دامت أعواما. نعرف من سياق الأحداث أنها فنانة شهيرة ناجحة، ولكنها رغم نجاحها هذا في أكثر لحظاتها هشاشة وضعفا، حتى غضبها يأتينا مشبعا بالحنين واللوعة والرغبة.
تأتينا الألوان التي يصطخب بها الفيلم بمثابة بصمة لصاحب الفيلم، وتوقيع لمخرجه، وتأتي المشاعر التي يتناولها الفيلم تكثيفا لتصوير ألمودوفار للوحشة والرغبة والحنين. هذه الرؤية الألمودوفارية ما كنت لتتحقق بدون تيلدا سوينتون التي تجسد كل اختلاجة لوجهها، وكل نبرة لصوتها تلك المشاعر التي يصطخب بها قلب بطلة الفيلم. هي امرأة ليست ثكلى، ثكلت حبا كرست له أعواما، وهي امرأة غاضبة تود أن تصب جام غضبها على ذلك الذي هجرها، ولكنها في المقام الأول امرأة عاشقة ملتاعة. تبدو لنا الشخصية المحورية في ألمها صورة جديدة لألم الشخصية المحورية في فيلم «ألم ومجد»، الفيلم الأكثر ذاتية لألمودوفار. ألم شخصيات ألمودوفار، ألم يصعب التداوي منه إلا بالحب، الذي هو سببه في المقام الأول. نرى أنفسنا في ضعفنا الإنساني، وفي لحظات بحثنا عن الحب حين نرى ألم سوينتون وتوسلاتها ورجاءها وتهديدها وضعفها، فمن منا لم يخبر حسرات فقد الحب وزواله. هي مثلنا وألمها هو ألمنا ذاته. لا ينجح ألمودوفار فقط في تقديم دفقة شعورية مكثفة في فيلم لا تتجاوز مدته النصف ساعة، بل يكشف لنا أيضا ذواتنا وسعينا للحب وخوفنا من الوحشة والعزلة.