Sunday 22nd of December 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-Nov-2024

صورة المنتصر من منظور قيمي

 الدستور-أ.د. سلطان المعاني

تُمثل «هزيمة الطرف الآخر» تجسيدًا للصراع بين قوتين متضادتين. تُظهر التناقض بين المبادئ المتصارعة، كالصراع بين الخير والشر، والحرية والاستبداد. وتُعاد تشكيلة القيم في هذا الصراع، حيث لا يكون الانتصار مادّيًا فحسب، بل هو غلبة للروح الإنسانية على الظلم والضعف.
تَتجسد بطولة الإنسان في قوة الإرادة والشجاعة في مواجهة التحديات. ويُعبّر البطل عن قدرته على تخطي الصعاب، وتحقيق الفضيلة في أسمى صورها، كما تنتصر الروح الإنسانية عبر القوة الجسدية، وتجاوز الظلم والعقبات التي تقف في طريق العدالة، وتُعيد البطولة ترتيب المفاهيم مُشَكِّلة دعامة للقيم العليا. من جانب آخر تُظهر إنسانية البطل قدرته على التعاطف، وإدراك ضعفه الإنساني. كما يُذكِّرنا البطل بأنه إنسان قبل أن يكون منتصرًا، يعيد صياغة انتصاراته لتصبح تجسيدًا للعدالة والرحمة، ولتُمثل إنسانيته القوة الحقيقية التي ترتقي به فوق الصراع، ليصبح الانتصار نصرًا للإنسانية نفسها. Bottom of Form
يتجلى الصراع في التاريخ كتمثيل رمزي لمواجهة قوى متناقضة، حيث يكون الصراع بين قوى مادية وتصادم بين قيم ومبادئ مختلفة، ويظهر هذا المفهوم بوضوح في الحروب البونيقية، حيث انتصرت روما على قرطاج عبر القوة العسكرية، ومن خلال ترسيخ نظام سياسي واجتماعي جديد. في المقابل، تجسدت «بطولة الإنسان» في شخصية حنى بعل، الذي قاد جيشه عبر جبال الألب، متحديًا قوة عظمى في عمل استثنائي يُظهر العزيمة والإصرار، ليصبح رمزًا للمقاومة رغم هزيمته.
ويُعيد التاريخ نفسه في شخص الإسكندر الأكبر، الذي وسّع إمبراطورية مقدونيا على حساب الفرس وأمم أخرى، ليكون «الطرف الأول» الذي هزم الآخر، ومع ذلك، يتجلى «البطل الإنسان» في احترامه لثقافات الشعوب التي غزاها، حيث تَبَنّى عاداتهم وخلق حالة من التبادل الثقافي، متجاوزًا الهيمنة الثقافية نحو بناء انسجام بين الشعوب. وفي فترة الحروب الصليبية، يتجلى الصراع مرة أخرى بين قيم دينية وسياسية متضادة. وقد أظهر انتصار المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين بعد استعادة القدس «إنسانية البطل» في تسامحه مع سكان المدينة. بهذا، يُعلي صلاح الدين من قيمة الرحمة والعدالة حتى في لحظات النصر. وعلى النقيض من الصراعات العسكرية، تجسد شخصية المهاتما غاندي بطولة من نوع آخر، حيث انتصر على الاستعمار البريطاني من خلال مبدأ المقاومة السلمية، وهنا تتجلى قيمة التمسك بالمبادئ الإنسانية كالعدالة والكرامة، ليصبح غاندي رمزًا عالميًا للبطولة الأخلاقية. كما نرى نفس الروح الإنسانية في نيلسون مانديلا، الذي قاد نضالًا طويلًا ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. رغم سجنه لمدة 27 عامًا، خرج مانديلا ليقود عملية المصالحة بدلاً من الانتقام. فهو يمثل «بطولة الإنسان» في القدرة على تجاوز الجراح والتسامح، مما يؤكد أن النصر الحقيقي لا يتحقق فقط بالقوة، بل بترسيخ قيم العدالة والمصالحة.
تؤكد هذه الشواهد التاريخية أن الصراع بين طرفين لا يشكل صراعًا ماديًا بحتًا، بل لعله تجسيدٌ لصدام القيم. ومن هذه الرؤية تتجلى «بطولة الإنسان» و»إنسانية البطل» في قدرة القادة والأفراد على الانتصار على الأعداء، وعلى ضعفهم الإنساني، بالتمسك بالقيم العليا كالرحمة والعدالة حتى في لحظات القوة والانتصار.Top of FormBottom of Form
يتجلى مفهوم الغالب والمغلوب في الأدب والأساطير القديمة كتمثيل للصراع بين قوى متناقضة، سواء كانت مادية أو معنوية. يتداخل هذا الصراع مع مفهوم «بطولة الإنسان»، حيث تُقاس البطولة فوق القوة الجسدية، بالحكمة، والتعاطف، والمثابرة في مواجهة الصعاب. وتُظهر الأساطير القديمة بوضوح هذا التداخل بين القوتين المتصارعتين، حيث يتجاوز البطل مجرد هزيمة العدو، ليصبح رمزًا للقيم الإنسانية الأسمى، ففي ملحمة جلجامش، يبدأ الصراع بين قوتين متضادتين، إلا أن رحلة جلجامش نحو الخلود تعكس معركة أكبر مع الفناء، وهي ليست معركة جسدية، وإنما صراع مع الخوف من الموت، وهو ما يعزز مفهوم البطولة الإنسانية في مواجهة أسئلة الحياة الكبرى. ولا نرى الصراع بين أخيل وهيكتور في الإلياذة معركة بين جيشين وحسب، وإنما صراع بين القيم؛ والشجاعة، والحب للوطن والعائلة، والبحث عن المجد. فالبطولة فيها انتصار بالمعركة، ومواجهة للتحديات النفسية، والتي تجلت في الحزن والشفقة، ما يذهب إلى تكريس البطل الأكثر إنسانية. وفي أساطير أخرى، مثل هرقل وأوديسيوس، يظهر الصراع بشكل تتشابك فيه القوة الجسدية مع الأزمات النفسية. كما تتجلى «بطولة الإنسان» في قدرة البطل على التغلب على ضعفه الداخلي، ما يُظهر أن المعركة الحقيقية هي مع الأعداء الخارجيين ومع الذات أيضاً. وتُعزز أسطورة سيزيف هذا الفهم للبطولة، إذ أن الاستمرار في دفع الصخرة دون جدوى يمثل صراعًا ضد العبثية. إن إنسانية سيزيف تتجلى في رفضه الاستسلام لمصيره المحتوم، مما يعكس قوة الإرادة البشرية في مواجهة المصاعب. وهذا التصور يتكرر في ملحمة رامايانا، حيث يمثل راما تجسيدًا للفضيلة في مواجهة الشر. فانتصاره يكمن في تحقيق العدالة والتمسك بالقيم الأخلاقية، مما يعزز مفهوم «إنسانية البطل» في معركة الخير ضد الشر.
وفي الأدب العربي القديم يأتي مفهوم الهزيمة من خلال الصراع المتداخل بين القوى الاجتماعية والروحية، ولا يتأتى النصر في بعده المادي، إلا إذا تجلى في قدرة الأبطال على تحدي الأعراف السائدة والقيم القمعية. وهنا تَبرزُ «بطولة الإنسان» في القيم النبيلة التي تميز الفرد في لحظات الشجاعة والتضحية، فيما تكشف «إنسانية البطل» عن عمق الروح والتعاطف الذي يقود أفعالهم. ونجد في شخصية عنترة بن شداد، مثالاً حيًا لهذا التداخل؛ إذ يُظهر صراعه مع المجتمع الذي يرفض مكانته كعبد، كيف يمكن للإنسان أن يتفوق بكرامته وشرفة قبل السلاح. فبينما كان يقاتل أعداء القبيلة ويثبت جدارته كمحارب، كان يواجه في الوقت نفسه نظامًا اجتماعيًا يعوق حريته وحقوقه الإنسانية. في هذا الصراع، ينتصر عنترة على القيم التي حاولت تهميشه، لكن إنسانيته تتجلى في حبه العميق لمحبوبته عبلة، فالبطولة عنده عمق في الإحساس وتعبيراً عن الحب والوفاء.
يبرز نفس المغزى في شخصية المهلهل بن ربيعة، الذي قاد حربًا طويلة للانتقام لمقتل أخيه كليب، في تجسيد لفكرة الانتقام القبلي، لكن خلف هذا الصراع الدموي، نلمس ألمًا عميقًا وشعورًا بالفقد والضياع، فهو صراع بين الواجب القبلي والمشاعر الإنسانية التي تظهر أن البطولة الحقيقية هي في تجلي القدرة على التعبير عن الألم والفقد في أكثر اللحظات ضعفًا.
أما قصة سيف بن ذي يزن فتبرز لنا مفهوم البطولة بتجاوز الصراع المادي، فانتصاره على المحتلين الأحباش جاء عبر سعيه لتحقيق العدالة لشعبه وإرساء قواعد الحرية. ويعزز فكرة أن البطل لا يكون محارباً وحسب، وإنما ملهما وقائدًا أخلاقيًا يتطلع إلى تحقيق الخير والعدالة لشعبه. وفي سيرة بني هلال، نجد أن الصراع يتجاوز القوة إلى تعقيدات أخرى، حيث تُظهر الشخصيات مثل أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة بطولاتهم في رغبتهم تحقيق الخير لأهلهم وأحبائهم، فالبطولة انتصار مادي يرتبط بتعاطفهم وتضحياتهم من أجل الآخرين.
امتدّ الصراع في الديانات القديمة ليشمل الآلهة والطبيعة، ففي الأساطير المصرية القديمة يظهر هذا من خلال الصراع بين حورس وست، وهذا الصدام بين إله الفوضى وإله النظام يعبر عن صراع كوني يعكس توازن الكون بين الفوضى والنظام، لتأتي النتيجة النهائية انتصاراً بقوة إعادة النظام وتحقيق العدل. فبطولة الإله حورس لم تظهر في مواجهته الإله ست، وإنما تجلت في تعاطفه مع البشرية. ونجد في الميثولوجيا الإغريقية أن الصراع بين زيوس والتيتان، أو بين بروميثيوس وزيوس، هو صراع الإنسان مع قوى الطبيعة والآلهة، حيث تُجسد الأساطير فكرة انتصار البشر أو الآلهة على قوى أكبر. بروميثيوس، مثلاً، يُظهر تضحية كبيرة عندما يسرق النار من الآلهة ليمنحها للبشر، تعاطفاً وإيثاراً من أجل خير الإنسانية، رغم العقاب الذي لحق به. ويظهر في النصوص الهندوسية مِثلُ هذا التفاعل بين الخير والشر من خلال شخصية راما في ملحمة رامايانا، حيث يمثل راما القيم الأخلاقية العالية والعدالة في مواجهة الشر المجسد في شخصية رافانا. ورغم قدراته الإلهية، تتجلى «إنسانية البطل» في تصرفاته المليئة بالتواضع والحب والحنان تجاه أسرته وشعبه.
يتجسد مفهوم الطرف الآخر في الآداب العالمية المعاصرة من خلال الصراع المادي، وعبر تجسيد التحديات النفسية، والفلسفية، والاجتماعية التي تواجه الإنسان في العصر الحديث، وفيها تتحول البطولة من مجرد انتصار جسدي إلى قدرة الفرد على مواجهة الأنظمة القمعية والصراعات الداخلية، وتعكس الأعمال الأدبية والفنية المعاصرة تطورًا في فهم طبيعة الصراع الإنساني. وفي سياق أدب الحرب والنضال السياسي، نجد أن روايات مثل «وداعًا للسلاح» تبرز كيف أن الحرب لم تكن معركة بين جيشين، بل تمثل أيضًا صراعًا داخليًا للبطل مع ذاته وحياته. الصراع هنا لا ينتهي بانتصار عسكري، وإنما في إعادة فهم الشخص لعلاقاته وحياته بعد الحرب. وذات الفكرة تتجلى في رواية «1984»، حيث يتحول الصراع من مواجهة مباشرة إلى صراع وجودي ضد النظام الشمولي الذي يحاول السيطرة على الأفكار. في كلا المثالين، تصبح البطولة أكثر إشراقاً، تعتمد على قدرة الأبطال على الحفاظ على كرامتهم وهويتهم رغم الظروف القاسية. وفي الأدب الفلسفي، يظهر مفهوم الصراع الداخلي بوضوح في «الغريب» لألبير كامو، حيث لا يواجه البطل العالم بقدر ما يواجه عبثه الخاص، فالصراع مع قيم المجتمع نفسه التي يحاول البطل التحرر منها. ويتجلى مفهوم التضحية الإنسانية في أنصع صورها في رواية «السيد والخادم» لتولستوي، حيث يقدم السيد حياته من أجل خادمه في لحظة من التحول العميق، مما يعزز فكرة أن البطولة تكمن في التحول من الأنانية إلى الإنسانية. نفس الفكرة تتكرر في الأعمال التي تتناول الصراعات الاجتماعية والعرقية، مثل «أن تقتل طائرًا بريئًا» و»جذور»، حيث تعكس تلك الأعمال أن الانتصار الحقيقي يتحقق بالتمسك بالقيم الإنسانية رغم الظلم الاجتماعي والعنصري.