Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    28-Feb-2021

دمشق 1987.. ومضات من الذاكرة

 الدستور-ناصر الريماوي

 رحيل
غادرت الشام لآخر مرة
وفي قبضة يدي أوراق تخرجي الجامعية.
كان الوقت قبيل الغروب، حين تحركت سيارة «الدوج» العمومية وعبرت من بوابة الكراج الموحد في حي «البرامكة» الدمشقي، وأخذت تنهب الطريق على غير عادة منها في السفر، لم تكن متمهلة مثلما تمنيت.
وأخذت أدور حول نفسي في مقعد السيارة الخلفي لأرى الشام وهي تبتعد وتغوص ورائي وسط العتمة، عتمة غريبة وغير مألوفة بين ليالي التشارين الشتائية الكثيرة. وكان تواطؤ المغيب قد هان في عيني فأخذت أحرض بصري نحو ما تبقى من خيالات المدينة، وظل ساكنا مطبوعا على زجاج الأفق الأسود، قاسيون والبيوت ومباني شارع «المزة» الشاهقة، وأضوائها التي أخذت تذوب وتندحر في البعيد.
توقفت سيارة «الدوج» للحظات في بلدة «الكسوة»، ربما للتسوق المعتاد، قبل نزوحها الأخير نحو داعل ودرعا وحوران.
هناك، في ذلك المكان ترجلت لأخر مرة ملوحا للفضاء ومودعا ذكرياتي، سنوات عديدة تركتها ورائي، أو تركتني لتظل على التصاقها الأبدي بالشام، تركت كل شيء وعدت من ذلك المكان على اتساعه ببعض أوراقي الجامعية.
ذهني كان مثقلا بما شبه الذكريات وكان صداها يطرق رأسي حتى آخر لحظة، لم يلبث أن تلاشى كل شيء، طلول الشام، الربوة، أفنية الساحل وغاباته المطلة، فسحات القرى النائية ، وبلدات بردى.
أوجعني قاسيون حين ترجل عن سفح التلة العالية، سقط على امتداد بصري ثم تناثر واختفى.
 «ديركي»
في حي «ركن الدين»، عند الطرف النائي منه، والمطل على مشفى «ابن النفيس» وطلعة حي الأكراد، وتحديدا في آخر مبنى سكني هناك، ووسط إطلالة خلفية واسعة لإحدى شرفاته الطابقية، كان صوت المغني «سميح شقير» يعيرني اهتمامه، للمرة الأولى، وأنا غارق تماما بين دفق الصوت السماوي الهادر للمغني، وهتاف «ديركي»، صديقنا الكردي، على الجانب المقابل.
«ديركي»، صاحب الصوت الجهوري، الجميل، والذي اعتاد أن يصحبنا إلى موائد الكرد وأعراسهم، يتقن المزمار ورفقة الطنبور وأغاني الفلكلور الطاعنة في القدم. اعتاد أن يعرج على شقتنا فيضيق بها ويقول: يا الله.. ليس هناك ما هو أجمل من فسحات البيوت الكردية المشرعة على السماء.
كان يغني لنا بصوت «شاكرو»، فيسمو بعلو مبدداً ذلك الضيق، محلقا نحو ذرى الجبال الشاهقة، ثم ينشد لنا بعضا من قصائد الشاعر الكردي العريق «أحمد خاني» فيستحيل نرجسا وصفصافا في براري الكرد الشاسعة، والبعيدة.
وكنت ألتقيه كل صباح تحت مظلة الباص الداخلي في الحي.
ذلك الصباح، كان بيننا آذار حيث اشتعال النار في «النيروز»، وكان لأول مرة يدفع لنا بأغنية عربية، قال لنا أنا وزملائي من العرب وهو يغادر على عجل، هذا المغني سيهتف محتدا: (لي صديق من كردستان اسمه شيفان).. فاستمعوا إليه.
رددت في داخلي وأنا أصغي لوقع خطواته وهو يعبر الشارع الخلفي عائداً نحو حي الأكراد المجاور: وأنا لي أصدقاء بالمثل، يهبطون شوارع الحي الضيقة مع كل فجر، ينسلون فرادى نحو شوارع المدينة وأحيائها. وكنت أرقب انتشارهم وحدي كفكرة غامضة، تلوح من جبال الكرد، وأقبية الحبس الجماعي.
ما أخجلني من «ديركي» ذلك النهار، أنا وزملائي، أن غرفتنا بشرفتها الخلفية كانت تكسر هيبة السجن الغنائي الواصل بين مراثي الكرد العتيقة وأغاني «شقير»، رغم وقعها الأممي النابض بيننا: (غرفة زغيرة، حنونة، كنا نلتم).
أما جدرانها فكان ينقصها الكثير من سمو مفرادت المغني الموحية، ومع هذا فهو لا يتوقف، يظل مواصلا، بل ويسيل بهتافه على جدرانها الفارغة، ونحن نصغي ونردد، وننتظر.
كنا بانتظار النار المسالمة، واشتعالها.. ولا شيء آخر.
ذلك الآذار وقعنا على بعض الصور، كان الدرك بهراواتهم يصطفون على امتداد الشارع الخلفي لشقتنا الغافية قبيل احتدام المساء الدمشقي، وكانوا يروضون أقدامهم عن سوء نية على بلوغ ذروة الحي، ربما لطمس نار الكرد، وربما لاعتقال المفردات العديدة من بين الأغاني والنشيد، أما نحن فكنا نخمن فقط من مكاننا ونصغي، كنا نردد في احتفالية الصوت: (صورة عالحيطان بتحكي وهي رسم حصان وعبدلكي.. وعالحيط الثاني جيفارا).
تزامن انفلات العسكر وهدير أقدامهم مع اشتعال أول النار عند السفح.
علا هتاف النار بعد أن أشعل جذوتها الصياح.
ثم تفرق حتى غدا صراخا مرعبا، تردد مع كل شعلة في الجبل.
خبا هتاف «ديركي»، وتلاشى في الصراخ المفتت وهدير الهراوات وتشتت أقدام العسكر الزاحفة في كل اتجاه.
لم نعد نسمع سوى صوت المغني، سميح شقير، واحتراق النار في النيروز.
في اليوم التالي، مع الفجر، هبط الكرد فرادى كعادة يومية، دون نار أو نشيد، تجرعتهم ممرات الجبل الضيقة في الغبش الصباحي وألقت بهم نحو شوارع الشام، لملء فراغ الحياة المتواصل وشريانها.
لم يكن من بينهم «ديركي».. انتظرته أمام موقف باصات «ابن النفيس» لثلاثين عاما ولم يأت. صوت المغني لم يجف أيضا، في كل يوم ووسط شرفة البيت الخلفية، وغرفتها المطلة، وهو يسيل حزينا: (ولما رجعت وقالولي اخذوه العسكر صابو عصفور بقلبي
وجناحه تكسر..ندهت دمعة من عيونيمش رح تتسكر.)
 «روشن»
بعد سنوات عديدة على اختفاء «ديركي» المحيّر، اعتدت أن أرى «روشن» وهي تهبط التلة، من ذات الطريق المعتاد «لديركي»، دون أن تراني وهي تقترب، حتىى دون أن أتبين حزنها المدفون فيالعينين، رغم انعدام المسافة.
يحتلني الندم حين أراها لا تبالي بذروة الجبل الشامي، قاسيون، أو ما تبقى من استلاب فعلي لفوضى الدروب الملتوية في عتمة الفجر.
ذروة الجبل الشّامي كانت تستدير قليلا عن مكاني، فيما تحجبه البيوت المضاءة ومراثي الصباح الرمادية لحي الأكراد.
الذروة الصباحية للجبل بعيدة أيضا عن هنا، عن آخر نافذة منسية، معلقة في حي «ركن الدين» الدمشقي.
وحين يوقظها الصباح خلسة، تجلبها «روشن» إلي، عن طيب خاطر، تنحدر بها دون تذمر، كعصابة رأس كردية أو حقيبة كتف، تأتي بكل شيء إلى حيث الشارع الأول، أسفل التلة، ودروب الشام الفاترة في الصباح، لتلقي بها عند أول موقف صباحي صامت لباصات النقل العام في الحيّ.
تحت مظلة الصفيح، في الانتظار، تطلق في وجهي عبق «الجزيرة السورية» بأكملها، بفيض كلمة، ثم تمنحني ذروة الجبل.
لا يجدي أن تعاتب كرديا، على عبء كلمة.
تبادرني القول بلهجتها «الكرمانجية».
حاولتُ مراراً أن أتنصل من رغباتي الصباحية أمامها، لأعفيها من هذا العبء، قلت لها بأن الذروة الجبلية لم تعد تؤرقني، وبأن التحية المجردة في الصباح دون عبق، تكفيني.
لكنها لم تكن لتصغي.
حين يبتسم الكردي وسط اعتذار عابر بأثر رجعي، أو حوار كهذا، وتحديدا في الصباح، فهو يرد عليك اعتذارك في حب، ولهفة، على الأغلب.
لأشهر طويلة و»روشن» أو «روشانا» وهي تجلب أعباء الصباح البعيدة غير مبالية، لتطلقها من حولي في كلمة.
حتى بعد رحيلها، ونزوحه الطوعي نحو جبال الكرد البعيدة.. بقيتُ أراها من نافذتي على موعد لا يتبدل، تعتنق الغبش الرمادي كعادة الكرد الراسخة في الصباحات، ثم تحلّق في هبوطها التدريجي، المتعرج، عبر دروب االمنحدر الجبلي، لحي «الأكراد»، لتواصل حتى موقف الباصات، غير مبالية بقامتها التي تسند الصباح، وعصابة الرأس في الغياب.
تحت مظلة الصفيح في الانتظار، تهرع نحوي كفراشة.
أقول لها بحزم بأنني أمقت العناد وعليها أن تختفي.
يلتفت البعض نحوي في استغراب.
أما هي فتبتسم لتقول صراحة: هذا مستحيل، فهو وعد.