Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Apr-2020

ياكوبسون والاتجاهات الأساسية في علم اللغة

 الدستور-إبراهيم خليل

من المعروف عن رومان ياكوبسون (1896- 1982) أنه أحد الأسلوبيين المحدثين الذين عنوا عناية كبيرة بشعرية النص الأدبي. وأسهم مع آخرين في نظرية الأسلوب التي تبحث في ما يضفي على الملفوظ اللغوي طابعه الأدبي الجمالي. غير أن الذي لا يعرف عنه أنه لسانيٌ في المقام الأول، وأنه اهتمّ، كغيره من لسانيي حلقة براغ، بالأصوات: الفونيم، والمورفيم، والحبْسَة، والتشكيل الفونولوجي في اللغة، فضلا عن النبر، والتنغيم. وعني عناية أكبر بنظرية التواصل، وهو صاحب العوامل الستة التي يرتكز عليها التواصل الفعّال بين متكلمٍ وآخرَ سامع، أو كاتبٍ وآخر قارئ.
 
وقد ألف، وصنَّف، الكثير من الدراسات على الرغم من الأحداث العاصفة التي أحاطت به، فبعد أن اختار براغ ملاذاً اختياريًّا من عَسْف البلاشفة في موسكو، تحول عنها إلى باريس عند بدء الحرب العالمية الثانية، وعندما احتل الألمان فرنسا شَدَّ الرحال إلى الولايات المتحدة، وهناك تابع أبحاثه، ونظرياته، في اللغة، ولا سيما بعد أن أسنِدَتْ إليه رئاسة قسم اللسانيات في المدرسة الحرة للدراسات العليا في نيويورك بين 1942 و1943. ومن المؤلَّفات التي لا يصحُّ الحديث عنه دون الإشارة إليها، والوقوفِ عندها، كتابُه القيِّم « الاتجاهات الأساسية في علم اللغة « Main Trends of the Science of Language وهو الكتابُ الذي قُدر له أن يترجم للعربية على يدي المترجميْن الكريميْن حسن ناظم، وعلي حاكم صالح، من العراق(الرافدين للنشر، بيروت، 2019)
 
والكتابُ، الذي يقعُ في ثلاثة فصول، يتناول فيه المؤلف متعدّدُ الألسُن مدارس لغوية، وأخرى فلسفية، وعلم - نفسية، ومجادلاتٍ بنيوية، وسِجالاتٍ ظاهراتية، وتجريبيَّة. علاوة على تأثيرات إيديولوجية شغلت الدارسات، والدارسين، طوال القرن الماضي. فاللسانياتُ علمٌ ذو صلات بالعلوم الأخرى، ولا ينفصل عنها قطْعًا. فهو- بطبيعة الحال- على مساس بالأنثروبولوجيا، وبتاريخ الثقافة، وبعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة، على قاعدة مفادها أنَّ اللغة هي الشيء المشترك الذي تختلفُ فيه، وتتحاورُ حوله، العلومُ المذْكورة. واللافتُ أنَّ لعلم اللغة علاقة وطيدة بالعلوم الطبيعية، فضلا عن الإنسانية المذكورة. وقد اتضحت علاقة اللسانيات بالبيولوجيا – علم الأحياء- ولا سيما بتلك النظرية التي تلقي الضوء على جسور التطور بين الحيواني والإنساني من جهة، وعلاقة اللغة بعلم الوراثة الجزيئي من جهة أخرى.
 
 البنيوية في اللسانيات
 
ففي إشارة إلى حلقة براغ اللغوية لا يُنكر ياكوبسون تأثُّر هذه الحلقة بجماعة الأبوغاز الروسية، وبمدرسة النحاة الجدُد في جامعة لايبزع Leipzig الألمانية، إلى جانب تأثرها بالمنهجية الوصفية لمدرسة جنيف، والدراسات اللغوية السلافية، فضلا عن الأنشطة المرتبطة باللسانيات الغربية المعاصرة. فاللسانيات البنيوية التي جرتْ صياغتُها على أيدي لسانيي حلقة براغ بين 1928 و 1929 لا خلاف في أنها متأثرة بالظاهراتية الهيجلية، والهوسيرلية. فقد كان كتاب هوسيرل (1859- 1938) الموسوم بـ فينومينولوجيا اللغة بمنزلة المصدر الذي انطلقتْ منه الجذور الأولى للبنيوية في اللسانيات. وتشهد على ذلك تلك المقدمة التي كتبها الدانماركي بروندال لجامع أعمال حلقة براغ، وهي التي يقول فيها: « تأمُّلات هوسيرل الظاهراتية الثاقبة مصدرٌ ملهمٌ لكلِّ مناطِقَةِ اللّغة «. وقد ساند هذا الرأي كثيرون، منهم: تروبتسكوي، الذي وجد في بنيوية حلقة براغ ما يتوافق تمامًا مع آراء استاذ اللسانيات العامة وليم فان هامبولدت. ويؤكد أحد أتباع هوسيرل، وهو هنريك بوز Bos في دراسة نشرت له عام 1939 أنّ لعلم اللغة، والظاهراتية، نقطة انطلاقٍ واحدةً. وممَّن يؤكدون هذا التواشُج إميل بنفنست، وميكولاي كروزفزسكي، الذي لا ينفي أن الظاهراتية هي المنارة الوحيدة التي يجدها الباحثُ بارزةً على الطريق المعبَّدة للمنطق اللغوي.
 
وبهذا التسلسل المطَّرد يتابع ياكوبسون في « الاتجاهات الأساسية لعلم اللغة « نشأة اللسانيات، بدءًا بآراء ماثيسوس، التي عبَّر عنها في « اللسانيات الوظيفية واللسانيات البنيوية « مرورًا بآراء توسيان تسينيير، الذي رجَّح النَزْعة الظاهراتية في اللسانيات على النفسيَّة، مُسْتثنيًا تلك القريبة من هوسيرل. ولهذا يجد العلامة رومان ياكوبسون في ابتعاد اللغويِّين عن علم النفس، واقتراب الدرس اللساني من الظاهراتية، استقلالًا كان قد تبنَّاهُ، ودعا له، فرديناند دو سوسير في محاضراته بين 1907 و1911 في جامعة جنيف. وهي الفكرة التي تعمَّقت، واغتنت، على أيدي لسانيين أمريكيين من أمثال: إدوارد سابير، وبلومفيلد، وزيلغ هاريس، قبل أن يتألق تشومسكي في النصف الثاني من القرن العشرين.
 
 سوسير وياكوبسون
 
واللافت أنَّ ياكوبسون في عرْضهِ لآراء سوسير لا يفتأ ينبِّه على الاختلاف معه في بعض ثنائياته، ولا سيَّما مقولتَهُ المشهورة عن التفريق بين اللغة Langue والكلام Parole. فسوسير يعدُّ كلّا منهما ذا طبيعة مستقلة عن الآخر، فاللغة شيء اجتماعي راسخ، وسابق، لوجود الفرد المتكلم الذي يستخدمها في كلامه اسْتخدامًا شخصيًا ذاتيًا، وبناءً على ذلك يَعُدُّ الكلام ذا طبيعةٍ ذاتيةٍ فرديةٍ، بينما اللغة- بقوانينها الصارمة - ذات طابعٍ اجتماعيّ. ويؤكد ياكوبسون أنَّ سوسير في هذا ليس على حقّ؛ فهو لا يأخُذُ في الحسبان طبيعة دورة الكلام الاجتماعية، المقوْلَبَة تبادُليًا، التي تنم – ضمنًا- على اشتراك فردين، على الأقل، فيها، إنْ لم يكنْ أكثر (ص31). فالمتكلم والكاتب كلاهما يختارُ من قواعد اللغة، ومن الألفاظ، ما يشاء بحرّيّة مطلقة، إلا أن الرسالة المنطوقة، أو المكتوبة، لا بدَّ فيها من مراعاة المخاطَبين، والعلاقة بين المتحدثين، وتوافر الشيفرات الثانوية التي تُعدُّ مِقْياسًا، ومِعْيارًا، للتحوُّلات المتدرِّجة بين حذفٍ فونولوجي، وقواعدي، وسردي، وسواها من الأشياء التي يتمُّ التوافق بشأنها بين المتكلّم والمتلقّي. ولا يُنكر ياكوبسون أن بعض مقولات سوسير لا يمكن الطعْنُ بها، من ذلك مثلا أنَّ اللغة ينبغي لها أن تدرس في ذاتها، ولذاتها، من غير وسيط، سواءٌ أكانَ هذا الوسيط من المعتقدات الدينية، أم من الإيديولوجية، أم من الأخلاقيات.
 
أَمّا ما يقوله سوسير عن علاقات الحضور والغياب في التراكيب، فهو من الإجراءات التوليديَّة المبكّرة لبعض لسانيي براغ. فالتوافقُ الضروريُّ بين محوري المجاورة، والاستبدال، في بناء العبارة، شيءٌ لا بدَّ من أن يتجلى رابطًا بين البنى النَوَويَّة (العميقة) والبنى الثانوية (السطحية) في الملفوظات الجمْلية. والنَحْو – من هذه الزاوية- يدخل عند سوسير – مثلما هي الحالُ عند ياكوبسون- في إطار العلاقات السياقيَّة. والتركيز على هذه الفكرة يقودنا إلى التركيز على علم الدلالة اللساني بفرعيه: القواعدي، والمعجمي. وهذا بدوره كان قد سبق إلى التنويه إليه، والتنبيه عليه، بوثيوس داسيوس في القرن 13 وأعادت التذكير به جماعة النُحاةِ الجدد في ثمانينات القرن19. ولياكوبسون في تتبعه لثنائيات سوسير موقفه من الدراستين: التعاقبية diachronically، والتزامنية synchronically للُّغات. إذ يرى في التركيز على حاضر اللغة، ودراستها، وهي قيد الاستعمال، نهْجًا يلقي الضوء على القوى الفاعلة فيها ، في حين أن الدراسة التعاقبية التي تراعي البعد التاريخي، والموروث، على أهميَّتها، لا تؤدي إلى نتائج نموذجية تشكل أساسًا يُمكن اعتمادُه في تحسين اكتساب الأطفال، أو الدارسين، للغات. أو إلقاء الضوء على اضطرابات الكلام كالحبْسَة؛ ذلك لأنَّ الغرضَ من دراسة اللغة في ذاتها، ولذاتها، هو البحثُ عن صياغةٍ للقوانين التي تشكل أساسًا للتغيير اللساني، إن كان ذلك في لغة معينة مفردة، أم في لغاتٍ شتى، وإن كان ذلك في زمنٍ ما، أو في الزمن كلّه، فهدف اللسانيات هو التعرف على القوانين العامة في اللغات بأنواعها؛ الصرفية، والصوتية، والنحوية، عدا عن الدلالية، والأسلوبية.
 
 اللسانيات وعلوم الإنسان
 
وعلى الرغم من أن استقلالَ اللسانيات شعارٌ رفعه اللساني الفرنسيّ أنطوان ميّيه في المؤتمر الدولي في لاهاي 1928 إلا أن هذا الاستقلال لم يَعْنِ في أي وقت من الأوقات التخلي عن أفقها الواسع الذي يجعل منها علمًا على صلة بكل من الأنثروبولوجيا وتاريخ الثقافة، وعلم الاجتماع، وعلم النَفْس، والفلسفة، وعلم وظائف الأعضاء في الإطار الذي تتطلبه فَسْلَجَة الصوت بصفةٍ خاصة. لهذا استطاعت اللسانيات أن تحتل في بدايات القرن الماضي موقعًا متميزًا بين منجزات العقل الإنساني (ص43). وهذا لا ينبغي له أنْ يصرف النظر عن شيءٍ آخر، وهوعلاقة اللسانيات بالسيمياء، أي بعلم العلامات semi logy الذي تعود جذورهُ إلى جون لوك، وكتابه « مبدأ العلامات « وهوين فرويسكي في كتابه القيم « فلسفة اللغة « وإلى شارلز ساندرس بيرس أحد السيميائيين البارزين في القرن الماضي. وهو الذي يُؤْثرُ عنه تقسيم العلامة على ثلاثة أنواع، هي: المؤشر، والآيقون، والرمز.ويرى ياكوبسون في الإنجازات التي حققها السيميائيون ترسيخًا لقوانين البناء العقلي. وبذلك تكون اللسانيات، بإجراءاتها المتعدِّدة تلك، قد تبوّأت مكانة عليا بين العلوم الإنسانية لم تحظ بها من قبلُ علومُ اللسان.
 
اللسانيات والعلوم الأخرى
 
وتعد الأصواتُ، والإشاراتُ، التي تصدر عن الكائنات الحية الأخرى؛ من طيْرٍ، وحيوان، لغاتٍ تتواصل بها، وقد دلَّتْ الأبحاث على أن هذه اللغات – إذا صحَّ أنها لغاتٌ- لا تتمتَّعُ بما تتمتع به اللغات الإنسانية من قدرة على التعامل مع المتَخيَّل، والمجرَّد ، ومع المدلولات، بمعزلٍ عن الزمان، والمكان. علاوة على أنّ الأصوات اللغوية البشرية تحظى بخاصية التمَفْصُل المزدوج، والانقسام بين ثنائية تمييزية (الفونيم) وقواعد دالة (المورفيم) وعدد الإشارات التي يُصْدرها الحيوان محدودة، ومتكرِّرة، بينما لكلِّ لغة إنسانيّة ما لا يتناهى من الرسائل اللفظية المتباينة التي يمكن التعبير عنها بوساطة الأصوات الهجائيَّة المحدودة.
 
وقد أسفرتْ هذه البحوث البيولوجية عن أنَّ اللسانيات، التي لم تقطعْ خيوط اتصالها بعلوم الأنثروبولوجيا، والاجتماع، والفلسفة، وتاريخ الثقافة، لها خيوطٌ أخرى تصلها بعلوم الأحياء، والوراثة، والاتِّصالات. فمن الاكتشافات المذهلة في علم الوراثة الجزيئي أنّ النظام اللغوي يقوم على ثنائياتٍ كتلك التي تم اكتشافُها على يدي جورج بيدل، ومورويل بيدل، وشرحاه في كتابهما: لغة الحياة The Language of Life . فهما يؤكدان فيه أنَّ تفكيك شيفرة الـ NDA كشفَ عن امتلاكنا، نحن - بني البشر- لغة أقدم بكثير من الهيروغليفية. لغةً قديمة قِدَم الحياة. لغةً هي الأقدمُ، والأكثرُ حياةً على الإطلاق. (ص85). فاللغة ذات الحروف الأربعة الموجودة في جزيئات الحامض النَوَوي موجودة أيضا في اللغات. والمدهش أنَّ تلك الخاصية الوراثية مكتوبة على شاكلِةِ الرموز المستخدمة في نظام مورس. ومما هو لافت أيضا أن الشيفرة الوراثية، واللفظيَّة، هما الوحيدتان القائمتان على استعمال المكونات المنفصلة التي هي نفسها لا معنى لها، ومع ذلك هي التي تعينُ على معرفة المعنى. أي أنَّ التشابه بين الشيفرة الوراثية، واللغة، يضعُ كلا من اللسانيين والبيولوجيين في صفٍ واحدٍ لا في صفَّيْن. ولا تقتصر اللسانيات على التواصل مع البيولوجيا، ونظرية الوراثة، فلها أيضا خطوطها التي تصلها بعلم آخر من علوم الطبيعة، وهو الفيزياء. وذلك أن بعض الدراسات تكشفُ، من حين لآخر، عن أن أصوات الكلام التي ندركُها بالسَمْع لا تختلف من حيثُ آليةُ الإدْراك عن إدراكنا للصوَر والألوان بوساطة العَيْن. فثمة تجانسٌ في النتائج المترتبة على استعمالنا لكلٍّ من البصر، والسمع. إلى جانب ما يعرف بالإشكاليَّة المشتركة بين علميْ الأصواتِ والفيزياء، وهي المعروفة بمسألة التردُّدِ العَكْسي، والتغييرات غير القابلة للانعكاس. وأيا ما يكُنِ الأمر، فإنَّ كلا من العلوم الطبيعية، واللسانيات، يشتركان في أنَّ الموضوعات التي هي مدار اهتمام العلمين تحتاج لأدواتٍ لسانيَّةٍ في البحث، وهذه المهمة تتطلب اللجوء إلى علم اللغة الذي عليه أن يوسِّعَ إجراءاته التحليلية، والتركيبية.
 
صفوةُ القول إنَّ كتابَ ياكوبسون هذا واحدٌ من الكتب التي ترصد تطوُّر اللسانيات في القرن الماضي، وما جدَّ فيها من أنْظارٍ ابتداءً من النُحاة الجدُد، مرورًا بالمدرسة الشكليَّة الروسيَّة، وحلقة براغ، ومدرسة جنيف، وما يميزها من ثنائيات سوسير، وانتهاءً بمختلف السجالاتِ حول اللسانيات البنيويَّة، وعلاقة علم اللغة بالظاهراتية، وبالفلسفة، وبالأنثروبولوجيا، وبعلم النفس، وبالوراثة، وبالفيزياء الصوتية، والبصرية. وبرصْدهِ اليَقظِ هذا يضعُ القارئَ في وسط التيارات، والاتجاهاتِ الجديدةِ في علْم اللسان، وهذا حَسْبُه.