خيري منصور و«الخبز الأحمر».. في ذكرى رحيله
الدستور-د. زياد أبو لبن
قرأت قصة للكاتب خيري منصور، (13/4/1945 – 18/9/2018)، بعنوان «الخبز الأحمر»، المنشورة في مجلة «أفكار» الصادرة عن دائرة الثقافة والفنون في عمّان، بالعدد السابع والعشرين، نيسان 1975. وهي مهداة (إلى عزت، الرمز والجسد). ومن خلال تتبعي لسيرة خيري منصور وجدته شاعراً وناقداً وكاتب مقالة، ولم أجد ما يدلل على أنه كاتب قصة، ولم أعثر في أعداد مجلة «أفكار» كلّها على قصة له غير قصة «الخبز الأحمر»، وربّما نشر قصصاً أخرى في مجلات أو جرائد عربية (؟!)، وصرف النظر عن جمعها في كتاب، ربّما.
سأعيد نشر قصة خير منصور «الخبز الأحمر»، لما تحملها من رموز ودلالات وجماليات اللغة، وسأقف على قراءتها في موضع آخر.
الخبز الأحمر [إلى عزت، المز والجسد] قصة بقلم: خيري منصور
«كان وسيما وفارعا كرمح، نصف عذارى القرية على الأقل حلمن به عريسا، قالت جميلة للنساء في فرن الحارة حين مر أمامهن ذات يوم: ما أحمله بالقمباز الأزرق والحطة الحرير، وهو جالس تحت شمسية مرصعة بذهب شقيقاته وأساورهن والنساء يرقصن حوله، والرجال يسحجون ويغنون له: مبارك عرسك يا عريس.
وقالت زوجة أخيه بعد أيام، عندما وصل حصانه غارقا\ص بالدم والعرق وارتمى في ساحة الدار: لماذا ليس هو؟
ولفظ الحصان أنفاسه الأخير وانحنت عليه شجرة التوت.
***
أطل أصيل من البوابة الكبيرة، عيناه نافرتان وحاجباه متقاربان كان يحمل في يده قنينة دواء أحمر للجروح، وقبل أن يصل الحصان المسجى قالت زوجة أخيه:
- لقد مات.
أزاح غصنا من شجرة التوت عن وجه الحصان وقبله في عرفه، ولما حاول الكلام لم يستطع، كان قد خلى شفتيه على جبين الحصان، وقال في داخل نفسه:
- سأقتل عشرين منهم.
***
كان صبحا ريفيا أزرق، الشمس تربت بحنان على أعناق البيوت القديمة وشجر الدوالي يمتد واثقا في التراب، والأطفال يتصايحون في الساحات ويفرطون عناقيد الفرح، والمقبرة الهادئة على يمين القرية لم تطأها أقدام منذ شهور، لكنه منذ الصباح الباكر تنقر صمتها الديكة وتصيح من وقت لآخر كأنما هي النذير.
***
انتفضت القرية فجأة من أصوات الرصاص آت من الغرب، وهرع الأطفال إلى بيوتهم يتدافعون ويتصايحون تاركين نوى المشمش والبلابل الخشبية وحبات الفرح في الساحات، وخيم صمت ثقيل على القرية.
***
كان أصيل مع ثلاثة من المزارعين قد حصدوا في ساعة واحدة من الصباح الباكر ما يحتاج إلى عمل يوم كامل، وجلسوا كعادتهم تحت الزيتونة الكبيرة يجففون عرقهم بخرق كانوا يلفون بها أرغفة مدهونة بالزيت، وهمّوا بتناول الإفطار.
قال أصيل واللقمة بين ذراعه وفمه:
- كلما نتناول الإفطار هنا تحت هذه الزيتونة أتذكره، وأكاد أقفز إلى الدلو أملأه ماء ليشرب، كان حصانا يساوي عشرين رجلا منهم...
انطلقت حزمة هائلة من الرصاص إلى الزيتونة، احمرت الريح فجأة وانتفضت الحقول، وانحنت شجرة الزيتون عليهم...
كانوا يتحلقون حول الأرغفة المدهونة بالزيت والتي غرقت حتى شرقت بدمائهم...
وهمست أوراق الزيتون:
- من سيأكل خبزهم..؟
هرع الرجال والنساء من الحقول المجاورة إلى حيث ارتطمت حزمة الرصاص.. وتقدم اثنان إلى شجرة الزيتون.. أزاحا أغصانها بصعوبة عن وجوههم.. كان الثلاثة يغمضون على سهل الساحل كله، وكان أصيل يفتح عينيه ويغلقهما بصعوبة، شفتاه يابستان وقمبازه أحمر مثقوب عند البطن، طلب ماء ولم يلب أحد طلبه فالماء يقتل الجرحى...هكذا قال بعضهم، كان قلبه ما زال يخفق ببقايا حياة، لم يجد الرجال شيئا يحملونه عليه إلا البنادق، وتقدم ستة منهم بثلاثة بنادق، جعلوها بينهم كالسلم، حملوه وساروا مسرعين نحو الشرق، حاول أن ينظر إلى الوراء ولم يستطع بسبب الألم الحاد الذي بدأ يشعر به، لكنه نظر في وجوه الرجال وقال: مات الثلاثة.. واحمر النور على أغصان الأشجار.
كانت القرية كلها.. الرجال والنساء والأطفال والأشجار الداجنة في الساحات والخيل والحمير وطيور الحمام، ورجال ونساء وأطفال يرتدون ملابس بيضاء جاؤوا من يمين القرية بعد أن انفتحت القبور ومشوا جميعهم إلى الغرب.
وقبل أن يتلاقوا في الطريق.. مات أصيل.
***
«إنه هو هذه المرة» قالت زوجة أخيه.
«ما أجمله بالقمباز الأزرق والحطة الحرير وهو جالس تحت شمسية مرصعة بذهب شقيقاته وأساورهن... قالت جميلة».
وضعوه على طاولة كبيرة في الديوان، لكنه كان أطول منها، فانحنى رأسه قليلا إلى الوراء وتدلى شعره الأسود.
كان الديوان يرتج من صراخ النساء وعويلهن، وجاء رجل طاعن واقتحم الزحام وقال:
- كرامته أن تدفنوه.
وصرخت شقيقته الصبية محلولة الشعر وثوبها ممزق:
- زفوه.
كانت الصبية قد فقدت وعيها تماما وأخذت تضحك بصوت عال، واخترقت الجسد النسوي الشاسع الذي يملأ الديوان إلى الغرفة المجاورة وأحضرت مشطا وقنينة عطر، وأخذت تمشط شعره الأسود وترش العطر على وجهه.
وغرقت النساء في الذهول وهن ينظرن إليها.
قالت امرأة كبيرة جاءت تبكي ابنها الميت منذ سنين:
- انظرن إلى وجهه.. فتح عينيه وابتسم.
وفي اليوم التالي، كانت القرية صامتة، والمقبرة على يمينها صامتة لكن الأطفال كانوا يهمسون في آذان أمهاتهم:
- رأينا القبور الأربعة تنز دما، بعد أن عاد الرجال من المقبرة وخلوهم وحيدين..».