الدستور
يتأمل القاص زياد خداش تفاصيل الغيابات اليومية في إطار معمار قصصي محكم البناء، قدم خلاله الأحداث في مشاهد ميلودرامية (مشجاة) جمع في سرده لها بين الوضوح والغموض، إلى جانب الخطأ والخطيئة (الواقع، والخيال) على سبيل الخديعة الأدبية، قاصدا من ذلك الحرص على عدم الوقوع في شَرك الواقعية المملة والممقوتة من قبل القارئ، الذي اعتاد على سوداوية الواقع، بالإضافة إلى حرصه الشديد على ألا يقع في خطيئة زيف الشعور والعيش في أحلام يقظة لا تسمن ولا تغني من جوع. ومحاولا بذلك فتح النص على قراءات نقدية متنوعة للمحتوى القصصي، بما يضمن ديمومة الحدث؛ لغاية في نفسه أسرها لمتلقيه في سطور قصصه وهي -بحسب تقديري- استدراج التعافي على الصعيدين: الفردي، والجمعي. التعافي من كل مستور أراد الكاتب نبشه والوقوف على حقيقته، خاصة أن القاص يبحث عن حياة جديدة، ولكن هذه المرة لم تكن عبر أحلام يقظة باشلار ولا عبر خفة كونديرا.
فالتعافي عند خداش برأيي لا يأخذ معنى العيش بخفة والتحرر من قيد الثقل فقط، وإنما يريد به أيضا التعافي من الضغائن والأحقاد وقيد العشائرية وعصبية الجاهلية الأولى وغيرها من المستورات؛ فهو لا يحمّل المسؤولية على عاتق الاحتلال فقط، وإنما يعيدها بحسب تصريح شجاع له إلى أننا أمام فرد عشائري تأخذه العزة بالإثم غالبا، مما جعله في متناول يد كل مغرض، فنقل سبب الهزيمة بالتالي من الفردية إلى الجمعية.
وعليه، سخر القاص نتاجه لهذه الغاية؛ فحدد في ضوء هذا متلقيه الضمني وهو في طور الخيال، وقدم السرد معملا الخديعة الأدبية في: الشكل، والمضمون، والتقنيات السردية المستعملة. على نحو يمكننا من أن نقول: إن نتاجه يعد معيارا من معايير التجديد في ميدان القصة القصيرة، فما إن يمسك المتلقي بزمام أمور النص حتى يفلت النص من بين يديه، هاربا إلى أفق آخر يمنحه الدوام والديمومة، وهذا برأيي يشير إلى عبقرية في السرد استند عليها زياد خداش في تجربته.
يتكئ خداش في غموضه على سريالية محيرة في فوضويتها، وكذلك على تجربة تمتد جذور مرجعياتها إلى الأعماق المجتمعية المشكّلة لمحيطه، على نحو يجعل فك شيفرتها بحاجة إلى مفاتيح مرجعية يستعين بها القارئ الضمني البعيد عن التجربة، وهذا هو أساس التجديد في تجربته؛ فخداش يكتب متطهرا تطهر أرسطو، مما يعتريه من فيض شعوري إزاء الأحداث اليومية، في ازدواجية تجمع الوضوح الظاهري الموجه إلى القارئ البسيط المعايش للظروف إلى جانب الغموض السريالي المحير الذي لا يُدرَك إلا بإدراك المتلقي الخبير خديعة النص له.
ولعل زياد خداش يدرك تماما أن تمثله ما سبق ذكره في تجاربه القصصية يمكّنه من الإمساك بالمفتاح الذي يجعل نجاح النص وتفوقه أمرا محققا؛ فالخديعة الأدبية التي يمارسها النص على المتلقي تمكن النص القصصي من التنفس وممارسة الإذهال على المتلقي المقصود، خاصة أن القاص بعيدا كل البعد عن الكتابة المعيارية، وإنما يعمد إلى الفوضى المثيرة التي تبث الحياة في نصه القصصي، وتجعله يعيش في ديناميكية لامتناهية في ميزان النقد والتلقي، باحثا عن فرصة لسد ثغور الواقع متى يتسنى له ذلك.
اختار زياد خداش الجراح تدل علينا، المفقودات، أنف ليلى مراد، وأسباب رائعة للبكاء، الغارقون في الضحك عناوين لقصصه واستطاع أن يخفي وراء بساطتها الظاهرية غموضا فوضويا مخادعا، مما يجعل المتلقي في تشوّق لسبر خفايا هذه العناوين والبحث فيما وراءها -خاصة أنها تعد مفاتيح النصوص وخزائن أسرارها- وصنع خداش بفعلها مفارقة منطقية مقنعة مستوحاة من الواقع؛ بسبيل إلى تحقيق التعافي الفردي الذي لابد أن يقود إلى التعافي الجمعي بعد أن يستشعر ويشارك المتلقي (البسيط، والخبير، والثقف) القاص رغبته في التغيير من قبل الفرد أولا، والجماعة تاليا.
لذا، صنع خداش الأحداث من وحي هموم واقعه؛ فهو يتكئ على تجربة وثقافة تضرب بجذورها في أعماق تاريخ وطنه وقضيته، مما يجعل المتلقي البعيد عن التجربة والحدث بحاجة إلى مفاتيح مرجعية، على نحو يثير فيه الفضول للمعرفة، فجاءت أحداثه متمثلة في: باعة متجوّلين، أو في طلاب المدارس، أو في امرأة تعثرت في طرقات الحياة حتى بدا القهر والخيبة على محياها. وهذا ما فعله في قصة «حائك من حيفا» من مجموعته «أنف ليلى مراد» إذ وجدت المرأة نفسها عروسا لرجل منحته الحرب رتبة العجز
وفي قصة «طفلة في علبة شوكلاته» تحدث عن الهجرة التي تسببت بها تبعات الاحتلال وأثرها في الواقع الفلسطيني، وجاءت الأحداث من وحي قصص المخيم، ولكنه أغرقها بالعجائبية، فقد ولدت الطفلة هجرة في الوقت الذي غابت فيه أختها رجاء عن الأجواء واستقرّت في غياهب الغيم ناسية أهلها وأين يسكنون، وحين وزعت حبات الشوكلاته احتفالا بهجرة كادت سلمى أن تأكل رجاء، التي كانت داخل حبة الشوكلاتة.
ويعكس زياد خداش في مجموعته «أنف ليلى مراد» قصصا أعاد إحياءها من النسيان عبر العرض السردي، مستعرضا بفعلها بساطة الإنسان الفلسطيني وقربه من الجميع، وأنه يصنع فرحه بأبسط الأشياء؛ ففي قصة «أنف ليلى مراد» غيّر منصور وزوجته أحلام أسماءهم إلى الاسم الذي نادتهم به أم كلثوم عند زيارتها بيتهم لأول مرة، ووضعوا جملتها التي قالت فيها: «أشهى حلوى آكلها في حياتي. أحبكما يا أحلام ويا منصور» تذكارا خلداه بكتابته على كرتونة علقاها على الجدار، رغم أنه وضح في السرد أنها من الممكن أن تكون دخلت بيوتا كثيرة، وقالت نفس الجملة لهم، ولكنهم يحاولون صنع سعادتهم من ركام العدم.
ولتنوع المتلقيين الضمنيين لدى خداش؛ فإن الألفاظ المشكلة لمعمار قصصه اللغوي تراوحت بين العامية والفصيحة، مع بعدها عن السطحية والإبهام المضل -على الحد سواء- فنجده في قصة «الحقيبة ليست لي» من مجموعته الموسومة بـ «الغارقون في الضحك» يقول: «أحمد اسمعني، لو بدي أتصل على رقمي من رقمي شو ممكن أسمع؟» يمارس خديعته على متلقيه، معنى هذا أن اللغة هي الأخرى مارست خديعة على المتلقي وكشفت عن تأمل دقيق لانتقاء المناسب منها لبلوغ الهدف.
فمن ينظر إلى الألفاظ يتهمها بالهشاشة، ولكنها في الواقع تؤدي دورا مهما جدا في جعل المتلقي متفاعلا مع الحدث القصصي. ولأن زياد خداش مثقل بالمسؤولية تجاه مجتمعه وواقعه، فإنه يتحين الفرصة لاقتناص أحداث عابرة آنية ويومية يستلها من نسيج يومياته، مقدما إياها في سرد مخادع لغة وأحداثا، ومسلطا الضوء على ألف سبب وسبب رائع للبكاء في مفارقة حياتية مبهرة للقارئ، تاركا للمتلقي الضحك بعين والبكاء بالأخرى، فما إن يعيش القاص ألم الحدث، حتى يلبسه إحدى شخصياته المحورية في قصصه، بعد أن يحيك نسيج المشهد في مخيلته مازجا بين الواقع والخيال في بنائه الحدث وقوالبه اللغوية، ليطرح عبرها قضايا على أمل التغيير الفردي والجمعي، بما يستدرج فيه التعافي على كل الصعد.
لذا فإنه من المكنة القول، إن توجه زياد خداش هذا يعد معيار تجديد؛ إذ إنه استطاع في رسمه خطوط تجربته القصصية أن يجمع خيطي الكتابة: الخيالية منها، والتعبيرية. مقدما بفعلهما خديعة أدبية على مستوى الشكل والمضمون، في إيقاع منتظم استطاع عبره كسر توقع القارئ، قدمه في مشاهد سردية ميلودراما، مستوحيا شخصياته المحورية من غيبيات واقعه اليومي وتفاصيله، مستعينا بملامح الشخصيات القصصية العالمية التي شكلت وعيه الثقافي، إذ عرفها بفعل المكتبات في مدينة يافا -المكتبات التي كانت تحضر الروايات والقصص من الخارج هي: مكتبة السفري، ومكتبة فلسطين العلمية، ومكتبة الطاهر- إذ قرأ منها -بحسب قوله- المئات من الروايات لأدباء عرب، وعالميين.
ورغم هذا التنوع والتجديد في السرد، إلا أن هذا لا ينزهها عن النقص وفي هذ الإطار نذكر أن بعض هذه الهفوات قد نوه إليها خداش بنفسه، أو ربما أبدى خوفا من اقترافها معربا عن ذلك بقوله: إنه يخاف من الوقوع في غياهب دقة التوثيق، خاصة أنه لم يعش التجربة، وإنما اتكأ على أخبارها، ولكن من الهفوات التي أجده قد وقع فيها هي تدفق السرد لديه إلى الحد الذي أفقده السيطرة - إلى حد ما - في بعض القصص على الحبكة على نحو يجعل القارئ يضيع مع الأحداث، فلا يكاد يجد طريقا للعودة، كما حدث معه في قصة «حين اقتحمت غرفة تحية كاريوكا!» ضمن مجموعته القصصية «أنف ليلى مراد». ولكن قصارى القول، إن تجربة زياد خداش القصصية تجربة يشار إليها بالبنان للأسباب الآنفة الذكر؛ على نحو يبقيها محط أنظار الدارسين.